بقلـــــم | الكـــــاتب السياسي – محمد غميم
في الوقت الذي ينتظر فيه الليبيون إصلاحًا اقتصاديًا يعيد للدينار قيمته وللدولة هيبتها، جاءت فضيحة الإصدار النقدي الأخيرة لتكشف حجم الاختلال العميق الذي يعيشه الاقتصاد الوطني، وتضع البلاد حرفيًا بين مطرقة الإنفاق الحكومي المتضخم وسندان الإصدار النقدي غير المنضبط.
فقد أعلن مصرف ليبيا المركزي في بيان رسمي عن فجوة مالية ضخمة بقيمة 10 مليارات دينار بين حجم الإصدار النقدي الفعلي وما هو موثق في سجلات المصرف. وتتوزع هذه القيمة على 3.5 مليارات من فئة الخمسين و6.5 مليارات من فئة العشرين، وهي مبالغ تم سحبها من التداول ولم تكن مدرجة ضمن السجلات الرسمية، ما يشير إلى خلل خطير في إدارة الإصدار النقدي والرقابة عليه.
الأخطر أن المصرف المركزي أكد أنه سيتحمل هذه القيمة من حساباته الخاصة، تمامًا كما يفعل مع النفقات الحكومية المتضخمة والاعتمادات الوهمية ، الأمر الذي يعني عمليًا تحميل الميزانية أعباء مالية جديدة دون وجود غطاء حقيقي لها ولا توريدات فعلية بل تحويلات في الهواء. هذه الخطوة تنذر بمزيد من الضغط على سعر الصرف، وتراجع إضافي في قيمة الدينار الليبي، في وقت يعيش فيه المواطن أساسًا أزمة معيشية خانقة نتيجة الغلاء وضعف القوة الشرائية.
ولا يمكن النظر إلى هذه الأزمة بمعزل عن الإنفاق الحكومي المتضخم الذي أصبح سمة ثابتة في المشهد المالي الليبي، حيث تُصرف المليارات دون إنتاج حقيقي أو مشاريع تنموية ملموسة، وسط بيئة تتفشى فيها الفساد والسرقات وضعف الرقابة. هذا الإنفاق الوهمي يشكل استنزافًا حقيقيًا للاقتصاد الوطني، ويُضعف قدرة المصرف المركزي على الوفاء بالتزاماته الداخلية والخارجية.
ليبيا ليست حالة استثنائية بين الدول، لكنها تعاني من تفكك مؤسسات الدولة، وضعف القانون، وسطوة المليشيات، مما يجعل أي إصلاح نقدي أو مالي جاد مهمة شبه مستحيلة. لقد جرى تفريغ مؤسسات الرقابة من مضمونها، وغابت الشفافية، وأصبح القرار الاقتصادي رهينة التوازنات السياسية والمصالح الضيقة لا المصلحة الوطنية.
صحيح أن الإصدار النقدي خارج قنوات المركزي يُعد مسمارًا في نعش الاقتصاد، لكنه ليس وحده المسؤول. فـ الهدر في الإنفاق العام هو الآخر انتحار بطيء للمنظومة الاقتصادية، إذ لا يقابله إنتاج أو احتياطي فعلي، ما يؤدي إلى تضخم متصاعد وعجز متنامٍ وفقدان تدريجي لقيمة العملة.
إن مواجهة هذه الكارثة تتطلب أكثر من بيانات وتصريحات، بل تحتاج إلى خطة إصلاح شاملة تشمل ضبط الإنفاق، تنظيم الإصدار النقدي، استعادة هيبة مؤسسات الدولة، وتفعيل الرقابة الفعلية على المال العام. من دون ذلك، سيبقى الاقتصاد الليبي يتأرجح بين المطرقة والسندان، بلا مخرج حقيقي من أزماته المتراكمة.