صندوق النقد الدولي و كما هو معروف مؤسسة مالية دولية تعني أو تهدف إلى تشجيع و تحقيق النمو و الرخاء الاقتصادي لكافة أعضائه و ذلك عبر دعم السياسات الإقتصادية التي تعزز الإستقرار المالي و التعاون في المجال النقدي بما يعزز الإنتاجية و خلق الوظائف و الرفاهية الإقتصادية و الاجتماعية و ذلك من خلال تقديمه للقروض و المساعدات و المشورة الفنية و التدريب للدول الإعضاء و إلى ما ذلك من مهام لا يسعنا الوقت للخوض فيها .
و هذا صحيح لكن يبقى أغلبه نظرياً ، فصندوق النقد الدولي عملياً و في حقيقته ما هو إلا وسيلة و أداة تحركها الولايات المتحدة لفرض هيمنتها و أملاءاتها السياسية و الاقتصادية على دول العالم .
و على الرغم من إن ألية إتخاذ القرار في الصندوق تتم بالأغلبية العظمى أي بتصويت ما نسبته ‎%‎ 85 من أصوات الدول الأعضاء الذي يقارب عددهم من 190 دولة ، فإن الإعتراض أو الفيتو الأمريكي وحده كافي لإفشال أي قرار ، فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لها حق النقض و ذلك إستناداً إلى كبر حجم حصتها في الصندوق التي تقدر ب بما نسبته ‎%‎17 و إلى قوة الدولار الأمريكي الذي يهيمن على أكثر من ‎%‎60 من إحتياطيات العملات الأجنبية العالمية .
و عليه فأي دولة لا يمكن لها الحصول على قروض صندوق النقد بهدف إنقاذها و مساعدتها في تجاوز أزماتها الإقتصادية ما لم تنال موافقة الولايات المتحدة ، و هذا ليس مجاناً بل بموجب شروط مجحفة تصل إلى حد المساس بسيادة الدول و التدخل في شؤونها الداخلية و الإطلاع على أسرارها و ذلك عبر أخضاع تلك الدول لعقيدة الصندوق المتمثلة في الإلتزام بمبادئ الليبرالية و إقتصاد السوق عبر الإنفتاح الإقتصادي للحد من التدخل الحكومي في الحياة الإقتصادية و بما يحد من الفساد .
و ثتمثل أشكال تلك العقيدة في رفع أو تقليص الدعم الحكومي بكافة أشكاله و بشكل كبير ليس في الوقود فحسب بل حتى في قطاعات التعليم و الصحة و الكهرباء و الماء و الغاز فضلاً عن إقرار ضرائب و رسوم إضافية و رفع نسبة ما هو قائم .
ناهيك عن خصخصة أو بيع عدد من مشروعات القطاع العام و تسريح مئات الالف من الموظفين بالجهاز الإداري بدعوى إعادة هيكلته و لا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتعداه إلى ما هو أسواء و ذلك بضرورة تحرير سعر صرف الدينار أي إن سعره سيتحدد من خلال قوى الطلب و العرض في سوق الصرف الاجنبي و ليس من خلال قرار للمركزي كما هو الأن و لا يجوز للأخير التدخل إلا في حال إرتفاع سعر الدولار إلى معدلات مرتفعة قد تصل إلى 15 أو 20 دينار للدولار .
و صراحةً ما ذكرته ليس مجرد كلام بل واقع من تجارب الصندوق مع دول عدة في محيطنا الإقليمي أبرزها السودان التي رضخت مؤخراً لشروط الصندق و قبلت برفع الدعم و بتحرير صرف عملتها التي هبطت من 60 جنيه إلى قرابة 580 جنيه للدولار، هذا بالطبع دون ذكر التنازلات السياسية و ذلك بدفع السودان لتعويضات مالية لعائلات أمريكية من ضحايا هجمات تنظيم القاعدة على سفارتي واشنطن في نيروبي و دار السلام في العام 1998 م و تطبيع السودان لعلاقته مع الكيان الإسرائلي .
و كذلك الامر فيما يخص مصر فهي قبلت أيضاً بشروط الصندوق منذ 2016 م في مقابل حصولها على قروضه حيث فرضت المزيد من الضرائب و الرسوم و حررت الجنيه المصري لينخفض سعر من 6 جنيه إلى قرابة 19 جنيه الدولار .
و كذلك تونس التي تعاني اليوم في طريقها إلى ذلك و لا خيار أخر أمامها .
و لا ننسى لبنان المفلس الذي يعيش أسواء أزمة إقتصادية منذ إستقلاله و على الرغم من علاقاته الودية مع الولايات المتحدة ، فصندوق النقد يرفض إقراضه ما لم يتم تشكيل حكومة لا بهيمن عليها حزب الله المنصف أمريكياً كمنظمة إرهابية و ما لم يعيد هيكلة و رسملة نظامه المصرفي و تحرير سعر الليرة الذي يعادل اليوم 32000 ليرة لكل دولار رغم إن المركزي اللبناني خفضه مؤخراً من 1500 إلى 15000 ليرة لكل دولار .
و في الختام فمن المؤسف جداً لنقولها و بكل مرارة إن ليبيًا تسير في الإتجاه نفسه و إن كانت بوتيرة بطيئة، فالمؤشرات الإقتصادية سيئة من تزايد في الانفاق العام و هبوط في الايرادات و تفاقم للدين العام و تراجع للإحتياطي الأجنبي و إنخفاض في قيمة الدينار و إرتفاع لمعدلات البطالة و التضخم ناهيك عن ترهل نظامها المصرفي و قطاعها الخاص و تهالك البنى التحتية و تدهور للخدمات فضلاً عن الإرتفاع الكبير فبي معدلات الفساد .
أما سياسياً فالأمر واضح و لا يحتاج لتوضيح فالتشظي و الإنقسام المؤسسي و الإنسداد السياسي أصبح امر إعتبادي و ممنهج طالما يخدم متصدريه لكن يبقى الأسواء هو الدور السلبي و المشبوه الذي يلعبه السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند الذي أصبح يتدخل في كل كبيرة و صغيرة و الذي سيقود ليبيا من خلال هذا الدور إلى براثن الصندوق عبر أليته المزعومة لمراقبة و إدارة العائدات النفطية و حينها فقط سيدرك الليبيين ما كان يخطط و يحاك لهم .
و صحيح قد يرى الكثيرين إن عقيدة صندوق النقد جيدة بإعتبارها تحد من التدخل الحكومي و من الفساد و تشجع على الانتاجية لكن تطبيقها و التأقلم معها يبقى صعب في بلد أعتاد شعبه على الإتكالية المفرطة بسبب الإعتماد المفرط لحكوماته على النفط فقط في دفعها لمرتباته و في دعمها لإحتياجانه الأساسية و في توفيرها للوظائف .