بقلم | د.مجدي الشبعاني – أستاذ القانون الدستوري بالآكاديمية الليبية

رحيل خلال مهمة رسمية ،،، شكّلت وفاة محمد علي أحمد الحداد، رئيس الأركان العامة للجيش الليبي، إثر تحطم طائرة خاصة أثناء عودته من مهمة رسمية خارج البلاد، صدمة وطنية عميقة تجاوزت بعدها الإنساني والعسكري إلى بعدٍ سيادي بالغ الحساسية. فالحادث، بطبيعته وسياقه، لا يمكن اختزاله في توصيف تقني بسيط كـ«حادث طيران عادي»، بل يفرض مقاربة أكثر عمقًا توازن بين التحفّظ المهني وحق الرأي العام في الفهم دون تهويل أو تهوين.

ووفق ما هو ثابت رسميًا حتى الآن، فإن الطائرة أقلعت من مطار أجنبي في رحلة عودة رسمية، ثم فقدت الاتصال بعد مدة من الإقلاع، وأرسلت إشارة طوارئ قبل سقوطها، ما أسفر عن وفاة جميع من كانوا على متنها، ومن بينهم قيادات عسكرية رفيعة. وحتى هذه اللحظة، لم يصدر أي تقرير فني نهائي يحدد سبب السقوط على نحو قاطع، سواء تعلق الأمر بخلل ميكانيكي أو تقني، أو بعامل بشري، أو بظرف جوي استثنائي. وهذه الحقيقة ليست تفصيلًا إجرائيًا، بل تمثل الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه أي نقاش مسؤول، لأن القفز إلى الاستنتاجات قبل اكتمال التحقيق يُعد إخلالًا بمنهج البحث السليم.

ومن زاوية علم الطيران، فإن الطائرة المستخدمة تنتمي إلى فئة معروفة بموثوقيتها العالية وسجلها الحوادثي المحدود، ما يجعل السقوط بعد نداء استغاثة، وفقدان السيطرة الكاملة، ومصرع جميع الركاب، حادثًا استثنائيًا لا يدخل ضمن دائرة الأعطال الروتينية أو الشائعة، خصوصًا في الطائرات المخصصة للرحلات الرسمية ذات الاعتماد العالي. وبعبارة أوضح، حتى لو انتهت التحقيقات إلى سبب فني بحت، فإن طبيعة هذا الخلل، إن ثبت، لن تكون مألوفة أو عادية من حيث المعايير المهنية.

غير أن خطورة الواقعة لا تتوقف عند بعدها الفني. ففي القانون العام وفقه السيادة، لا تُقاس الحوادث بوسيلة النقل وحدها، بل بصفة الضحية، وطبيعة المهمة، وتوقيت الحدث، ومكان وقوعه. وعندما يكون الضحية رئيس أركان دولة، وبرفقته قيادات عسكرية عليا، وعلى متن وسيلة نقل سيادية، وخارج الإقليم الوطني، فإن الواقعة ترتقي تلقائيًا من مجرد «حادث نقل» إلى واقعة سيادية مركّبة. وبهذا المعنى، يصبح التحقيق بطبيعته متعدد المستويات، يشمل البعد الفني المتعلق بسلامة الطائرة وأنظمتها، والبعد الأمني المتصل بسلسلة الحماية والصيانة والوصول إلى الطائرة، والبعد السيادي المرتبط بسياق المهمة وآثار الحادث وتداعياته على الدولة ومؤسساتها. ومن ثمّ، فإن التحفّظ الرسمي في التصريحات، في مثل هذه الحالات، لا يُعد تقصيرًا أو غموضًا غير مبرر، بل ممارسة سيادية مشروعة تمليها خطورة الحدث.

ويعزز هذا الفهم ما يقدمه التاريخ المعاصر من أمثلة لحوادث مشابهة طالت قادة دول أو جيوش، حيث ثبت أن الحقيقة التقنية، حتى عندما تُعلن، لا تُغلق دائمًا الملف السياسي أو الرمزي. ففي بولندا عام 2010، سقطت طائرة رئاسية وأُعلن السبب الفني، لكن الجدل السيادي استمر سنوات. وفي إيران عام 2024، فُسّر حادث مروحية الرئيس بعوامل جوية، ومع ذلك لم تتبدد الأسئلة السياسية المصاحبة. أما في باكستان عام 1988، فقد بقيت وفاة قائد الجيش لغزًا مفتوحًا في الذاكرة الوطنية. والقاسم المشترك بين هذه الحالات أن ارتفاع موقع الضحية في هرم الدولة يؤدي بالضرورة إلى اتساع دائرة التدقيق وإطالة عمر الأسئلة، حتى بعد صدور التقارير الرسمية.

وعليه، فإن وفاة الفريق الحداد لا يجوز اختزالها في توصيف تقني متعجل، ولا يصح توظيفها سياسيًا أو إعلاميًا دون سند، كما لا يجوز التعامل معها كحادث عابر في سجل الطيران. إنها واقعة سيادية جسيمة، تستوجب انتظار التقرير النهائي، وضمان شفافية مهنية متزنة دون تهور، وحماية الذاكرة الوطنية من الشائعات بقدر حمايتها من التعتيم.

وفي المحصلة، فإن المنهج المسؤول لا يبدأ بالسؤال: من المتهم؟ بل ينطلق أولًا من سؤال أعمق: ما الحقيقة، وكيف نصل إليها دون إخلال بالقانون أو بالسيادة؟ وإلى أن تقول لجان التحقيق كلمتها الأخيرة، يبقى الصمت المهني أصدق من الضجيج، والتحليل المتزن أرفع من الاتهام المجاني.