بقلم| د. سليمان الشحومي – مدير سوق الأوراق المالية السابق
على وقع شاشات صرّافين تعرض رقمين للدولار واحد رسمي وآخر أعلى في السوق الموازي يتحوّل سعر الصرف في ليبيا من رقمٍ مالي إلى بوصلةٍ سياسية-اقتصادية تُشير كل يوم إلى درجة الثقة في المؤسسات وحجم الضغوط على جيوب الناس.
ورغم الخطوات التي اتخذها مصرف ليبيا المركزي خلال 2025، ما تزال الفجوة بين السعرين قائمة، تُغذيها عوامل نقدية ومالية ونفطية متشابكة.
في الوقت الذي يواصل فيه مصرف ليبيا المركزي معركته ضد فجوة سعر الصرف بين السوق الرسمي والموازي، أود أن أطرح مقاربة جديدة تجمع بين الانضباط النقدي والواقعية السوقية: تقوم الفكرة على أساس الإبقاء على سعر رسمي ثابت للأغراض التجارية والحوالات عبر المصارف، وفي الوقت نفسه فتح سوقٍ مُدار للنقد الكاش الدولاري بين المصرف المركزي وشركات الصرافة الخاصة بأسعار حرة نسبياً.
واقعيا السوق الليبي يعمل بموجب سعرين أساسيين للصرف و آن الاوان للبحث عن مقاربة جديدة تعيد التوازن المنشود. هذا التحول التدريجي، إذا ما أُحسن تصميمه، يمكن أن يشكّل جسرًا نحو الاستقرار النقدي وتقليص الاقتصاد الموازي، بدلًا من صدمات الخفض المفاجئ أو الإبقاء على تشوهات غير قابلة للاستمرار.
لماذا نحتاج نظامًا مزدوجًا مُدارًا؟
المشكلة الأساسية في ليبيا هي أن حجم النقد المحلي الكبير والنقد الأجنبي المحدود يخلقان ضغطًا دائمًا على السعر الرسمي، فيما يُغري الفارقُ مع الموازي الأفراد والشركات بالبحث عن الدولار خارج القنوات الرسمية. إبقاء سعر رسمي واحد مع قيود مشددة يؤدي عمليًا إلى “تعدد أسعار” على الأرض.
الحلّ البديل هو الاعتراف بواقع السوق وتوجيهه بآلية
مُدارة وشفافة، بدلاً من استمرار “السوق السوداء” في الظل.
العقدة الأساسية : وجود فجوة لا تنغلق بسهولة بين اسعار الصرف
الفكرة مفادها: كلما زادت الدنانير المتداولة أسرع من زيادة السلع والدولارات المتاحة، ارتفع الطلب على العملة الصعبة خاصة إذا كان الحصول عليها رسميًا مقيَّدًا برسوم وضوابط فتتسع الفجوة مع السوق الموازي. وهذا بالضبط ما عاشته ليبيا خلال العامين الماضيين: ضريبة/رسم على بيع الدولار، خفضٌ لقيمة الدينار، وعودةٌ تدريجية لتنظيم سوق الصرافة الخاصة، مقابل إنفاق حكومي مرتفع وتقلبات في سوق النفط.
ما الذي تقوله أرقام المصرف المركزي؟
نشرات المصرف المركزي حتى يونيو 2025 ترسم خطًّا واضحًا:
أولا عرض النقود (M2)
نما بقوة في 2024 وبدا أنه تباطأ قليلًا منتصف 2025،
وهو تباطؤ مفيد إذا استمر.
ثانيا النقد المتداول خارج البنوك
وجود كمية كبيرة من السيولة خارج المصارف ما يعني أن جزءًا معتبرًا من المال يدور خارج الجهاز المصرفي، ويقلّل فاعلية أي سياسة قائمة على الفائدة المفقودة أو شهادات الإيداع والتي أطلق المصرف المركزي بديلا اسلاميا بمعدل عايد ضعيف قد يحتاج إلي مراجعة و مزيدا من الشجاعة في إطلاق ادوات نقدية اكثر قدرة علي جذب وادارة النقد.
ثالثا الاحتياطي الإلزامي
رُفع إلى 30% في ربيع 2025 كأداة كبحٍ سريعة، وهو قرار يحدّ من التوسّع الائتماني لكنه يحتاج “مكمّلات” حتى لا يخنق النشاط الحقيقي: أدوات ادخار بعائدٍ حقيقي، وأدوات سوق مفتوحة، وسوق ما بين المصرف المركزي و شركات الصرافة الحديثة للعملة.
خلاصة هذه الصورة: طالما ظلّت حصة النقد خارج البنوك مرتفعة وظلّ M2ينمو أسرع من الاقتصاد الحقيقي، ووُجدت ضريبة على بيع الدولار، فإن الفجوة مع السوق الموازي ستبقى مرنة صعودًا عند أي توتر.
الإنفاق العام: الوقود الخفي للطلب على الدولار
ليس كل الضغط نقديًا. فالمالية العامة بأجورها المرتفعة ودعم الوقود واسع النطاق والإنفاق الإضافي خارج الموازنات الموحدة تُضيف طبقة أخرى من الطلب على العملة الصعبة. جزء كبير من الإنفاق الحكومي ينتهي إلى واردات أو التزامات بالدولار، وفي غياب ضبطٍ متدرّج للنفقات أو تحسّنٍ دائم في الإيرادات غير النفطية، تتحوّل
الموازنة نفسها إلى مُولِّد ضغط على سوق الصرف.
النفط: شريان الدولار ونقطة الضعف معًا
تظل ليبيا اقتصادًا نفطيًا بامتياز: تعافٍ في الإنتاج ينعكس فورًا على وفرة الدولار ويهدّئ السوق، وتعطّلٌ في الحقول أو هبوطٌ في الأسعار العالمية يعكس الصورة في أيام. لذا لا يكفي أن نشهد موسمًا جيدًا في التصدير؛ الأهم هو استدامة موثوقية الإنتاج وتحييد الحقول قدر الإمكان عن التجاذبات، لأن كل “هفوة نفطية” تظهر فورًا على شاشة السوق الموازي.
ماذا فعل المصرف المركزي وأين تكمن الفجوة؟
في 2025 اتخذت السلطة النقدية ثلاث خطوات لافتة:
إعادة تسعير الدينار (خفض رسمي) لكبح الفجوة.
تخفيض ضريبة/رسم الدولار لكنها لم تُلغَ بالكامل، فظل التشوّه قائمًا.
تنظيم سوق الصرافة الخاصة و العمل بجدية لتزويدها بالنقد الأجنبي وربط الطلب بمنصة إلكترونية، لزيادة الشفافية وتخفيف الضغط عن قنوات المصارف.
النتيجة؟ تحسّنٌ ملموس في بعض الأسابيع، ثم عودةٌ إلى التذبذب عند أول موجة طلب موسمية أو خبرٍ نفطي غير مناسب .و السبب يكمن في الإجراءات “المسكنة” التي تنفع مؤقتًا، لكن توحيد السعر او تقليص الفارق بين السوقين وإلغاء الرسم مع أدوات امتصاصٍ للسيولة هو ما يُغيّر قواعد اللعبة بالسوق الليبي.
جوهر المقترح
يرتكز المقترح علي الإبقاء على السعر الرسمي عبر البنوك للأغراض التجارية والحوالات:
تستخدمه الشركات لاستيراد السلع والخدمات الأساسية وفق اعتمادات موثَّقة.
تُطبَّق عليه جميع ضوابط الامتثال ومكافحة غسل الأموال الي حين استقرار اسعار الصرف في المدي المناسب و يتقلص كامل الفارق بين السوقين.
2-تحرير تدريجي لسعر النقد الكاش الدولاري بين المصرف المركزي والصرافات الخاصة:
* بيع الدولار النقدي لشركات الصرافة بسعرٍ أقرب إلى السوق (سعر حُر/مزادات).
* السماح لهذه الشركات ببيع الدولار للأفراد وفق هوامش محددة، مع شفافية كاملة على المنصة الإلكترونية.
3-إدارة مرنة للسعر:
* المصرف المركزي يُحدد نطاقًا سعريًا (band) يتحرك فيه السعر الحر للصرافات وليس عبر تحديد هامش 7% كما هو معلن من المصرف المركزي حاليا، ويُراجع النطاق دوريًا وفق معايير واضحة (الاحتياطيات، الطلب الموسمي، فروق الفائدة).
4-آلية انتقالية
* إعلان جدول زمني للتوسع في حجم الدولار المخصص للصرافات كل شهر، مع تقليص تدريجي للرسوم على العملة الأجنبية.
* تشغيل سوق ما بين البنوك (Interbank FX) تدريجيًا، لينشأ في النهاية سعر سوقي موحَّد يشمل في نهاية المطاف كافة البنوك و شركات الصرافة .
متطلبات نجاح التحول التدريجي
1-إطار تشريعي وتنظيمي واضح: توحيد المعايير بين المصرف المركزي، البنوك، والصرافات الخاصة، مع التزامات AML/KYC.
2-منصة إلكترونية شفافة: تُظهر أسعار التداول وحصص الصرافات ومبالغ البيع والشراء يوميًا.
3-أدوات امتصاص سيولة مصاحبة: شهادات ادخار، رفع مؤقت للاحتياطي الإلزامي، أدوات سوق مفتوحة لضبط نمو M1/M2.
4-التزام حكومي بالانضباط المالي: ضبط بند الأجور والدعم، تحييد السياسة النفطية عن التجاذب السياسي.
5-تواصل واضح مع الجمهور: بيانٌ شهري يشرح خطوات الانتقال وأثرها على السوق والأسعار.
التحديات والمخاطر
1- تسرب النقد الأجنبي: إذا لم تُراقب الصرافات بصرامة قد يعود الدولار إلى الموازي.
2-تفاوت جهوي في التوزيع: يجب وضع معايير عادلة للحصص بين المناطق.
3-خطر الدولرة المفرطة: إذا لم تُحفَّز الودائع بالدينار، قد يتحول الجمهور إلى تخزين الدولار حتى مع القنوات الرسمية.
4-صدمة نفطية أو عجز مالي مفاجئ: قد يُربك المسار ويستدعي تدخلاً طارئًا.
سيناريوهات الأشهر المقبلة… بثلاث خيارات.
1- إصلاحٌ متكامل (الطريق الأقرب للاستقرار) إلغاء تدريجي للرسم وفق جدولٍ مُعلن، شهادات ادخار مرِنة بعائدٍ حقيقي لامتصاص النقد خارج الجهاز، سوق ما بين البنك المركزي و شركات الصرافة كخطوة اساسية ومبدئية وإطلاق مزادات شفافة علي الدولار بشكل دوري في مدد قصيرة نسبيا معروفة ومعلنة تُنشر نتائجها يوميًا، ورقابة صارمة على الصرافة المرخصة بهدف التحكم و ادارة سوق النقد الموازي و إدماجه تدريجيا ضمن منظومة الرقابة و الإشراف بالمصرف المركزي. النتيجة المتوقعة: تضييق الفجوة إلى نطاق 10–15% ثم أقل، مع استقرارٍ أعلى في الرسمي وتراجعٍ تدريجي لحصة النقد خارج البنوك.
2- حلٌّ جزئي (تحسّنٌ سريع… وقصير العمر) تغذية الصرافة بالدولار دون خريطة واضحة لإلغاء الرسم ودون أدوات ادخار جاذبة. النتيجة: انفراجة مؤقتة تتبخر عند أول صدمة طلب؛ عودة الفجوة إلى 20–30%.
3- ضغوط سلبية (السيناريو الذي لا نريده) توسع نقدي/مالي، صدمة في النفط، بقاء الرسوم والتشوهات. النتيجة: فجوة أوسع وتقلبات أعلى وربما خفضٌ اسمي جديد للدينار بلا علاجٍ للسبب.
ختاما الاستقرار قرارٌ سياسي بوسائل اقتصادية.
استقرار سعر الصرف ليس لغزًا تقنيًا بقدر ما هو قرارٌ سياسي-اقتصادي بالانتقال من “المسكنات” إلى “العلاج”: توحيدٌ فعلي للسعر مع أدوات نقدية تمتص الفائض، وماليةٌ عامّة تُخفّض الضغوط بدل أن تزيدها، ونفطٌ يُدار كسلعة استراتيجية لا كورقة تفاوض. عند هذه النقطة فقط، سيكفّ الرقم على شاشة السوق الموازي عن لعب دور الناطق الرسمي باسم القلق، وتعود شاشة السعر الرسمي مرجعًا يمكن الوثوق به.
هذه قراءة تعتمد بيانات المصرف المركزي حتى منتصف 2025 وتوجهات السياسات المُعلنة خلال العام، وتستند إلى منطق بسيط: كل خطوة تُقلّص النقد الحرّ خارج النظام وتزيد شفافية الدولار الرسمي، تُقَرِّب المسافة بين السعرين وتُبعد ليبيا خطوة عن “اقتصاد الظل” وخطوتين نحو الاستقرار.