ليبيا.. تلك الدولة الرئيسة والحساسة في المغرب العربي، تعاني من سوء الإدارة المزمن، والخلافات الداخلية، والتدخلات الأجنبية. تعتبر هذه البلاد مهمة للسلام والاستقرار والرفاهية في منطقة البحر الأبيض المتوسط والعالم العربي وأفريقيا. عاشت البلاد في ظل نظام « الحاكم الأوحد» لمعمر القذافي لمدة 40 عامًا تقريبًا، ولم يكن أداؤها جيدًا خلال العقد الماضي بعد سقوط ديكتاتوريته في عام 2011. وبينما لا تزال الاقتتالات الداخلية المستمرة، ومحاولات الانقلاب، وضعف القيادة، تهدد استقرار البلاد اليوم، حدثت الفيضانات العارمة الأخيرة التي أودت بحياة أكثر من 10 آلاف شخص في مدينة درنة على الشاطئ الليبي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في 12 سبتمبر/أيلول الماضي.
كارثة درنة مأساوية جداً وتبعث على الحزن، ولكنها أيضًا تحكي الكثير عن الوضع المروع في هذا البلد الكبير، الذي يمتلك النفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى. مدينة درنة تعرضت لكارثة طبيعية، لكن معظم الدمار الذي حصل خلال تلك الكارثة كان من صنع الإنسان، بسبب سلسلة من الأخطاء التي ارتكبتها حكومة حفتر التي تحكم شرق ليبيا. كما ان حكومة الوفاق الوطني في طرابلس لا تبدو بحال أفضل أو أكثر قدرة على إصلاح أضرار تلك الكارثة. وكان أحد الأخطاء هو أن المسؤولين الليبيين لم يتابعوا توقعات الطقس ويتخذوا التدابير اللازمة. وحتى لو فشلت إدارة حفتر، كان بإمكان الحكومة المركزية في طرابلس على الأقل تحذير الناس.
اللجنة البلدية في درنة اجتمعت قبل يوم من هطول الأمطار وحدوث الاعصار، وقررت إخلاء المدينة من خلال تفويض مدير أمن درنة بتنفيذ القرار. إلا أن رئيس الأمن لم ينفذ القرار وأمر من جانبه بفرض حظر التجوال «المميت» على المواطنين بدلاً من ذلك. من المحتمل أن حكومة حفتر أعطت الأمر بإبقاء الناس في منازلهم خلال الفيضانات عن قصد، أو بطريقة عفوية، وفي كلتا الحالتين، التسبب في وفاة هذا العدد الكبير من الأشخاص (عمداً أو إهمالاً) يعتبر جريمة. وانهار السدان اللذان كان من المفترض أن يحميا المدينة من الفيضانات، بسبب عدم وجود صيانة مناسبة منذ التسعينيات، مما تسبب في أضرار جسيمة.
وفي اليوم التالي للكارثة، احتج أهالي درنة ضد إدارة حفتر، لكن المدينة المصابة أُغلقت أمام العالم الخارجي. وعزز رجال حفتر القبضة الأمنية في مواجهة المظالم الشعبية، ولم يسمحوا إلا لوسائل إعلام مختارة بالوصول إلى منطقة الكارثة. لذا فإن ما يحدث حقاً في درنة اليوم ليس واضحاً تماماً للعالم الخارجي. هنالك أنباء عن قدوم الجيش المصري للمساعدة في السيطرة على الوضع الأمني، وتوجه حفتر إلى روسيا للقاء بوتين، على الأرجح للحصول على مساعدة عسكرية أو أمنية. إن إضعاف حفتر سيجعله أكثر يأسًا من دعوة التدخل الأجنبي ويجعله أكثر استبدادًا، مما يزيد من مستوى المعارضة والكراهية بين الليبيين.
أرسلت العديد من الدول مثل قطر وتركيا والكويت مساعدات إلى درنة، لكن الدمار أكبر من أن يتم إصلاحه على المدى القصير. ولسوء الحظ، نحن (الجمهور العالمي) لا نعرف حجم الأضرار في المدينة والعدد الدقيق للوفيات والمفقودين. إدارة حفتر أوقفت منظمات المجتمع المدني عن الإبلاغ المبكر عن عدد القتلى والمفقودين. إن غياب الشفافية يحجب الصورة الحقيقية للدمار ويعوق ملاحقة المسؤولين عن ارتفاع عدد القتلى. وبدون إجراء تحقيق دولي، فإن مقتل الآلاف سوف يمر دون عقاب ودون حتى الاعتراف بحدوثه.
ما يهتم به الغرب بشأن ليبيا هو الطاقة والمهاجرين القادمين من هناك. لقد أثبت الزمن أنهم ليس لديهم مصلحة في تحسن الأوضاع في هذا البلد واستقراره، حيث أبناؤه الليبيون منقسمون بسبب المخاوف الإقليمية والقبلية والأيديولوجية. وبقية القوى العالمية الكبرى مشغولة أيضًا بالحرب في أوكرانيا ولا تهتم كثيرًا اليوم باستقرار ليبيا. لقد فشلت «الحكومات» الليبية الحالية في الشرق والغرب. وكان رئيس الوزراء الدبيبة قد اهتز بالفعل من تبعات انكشاف لقاء وزيرة خارجيته المنقوش مع وزير الخارجية الإسرائيلي، فضلاً عن الاقتتال بين ميليشيات قوات الردع ولواء 444. اجراء الانتخابات كذلك يبدو مستبعداً جداً، بسبب الخلافات حول طبيعة الترشيح وآليات تنفيذ الانتخابات. ولذلك فإن تجديد الشرعية بحكومة وفاق وطني جديدة، بوجوه جديدة، بتفويض أممي، لتحضير البلاد لانتخابات حقيقية، هو الحل الأفضل المطروح في الأفق. وسيكون التعاون الأوسع بين دول المنطقة مثل تركيا ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي بشأن ليبيا أمرًا بالغ الأهمية أيضًا.