د. محمد أبوسنينة – خبير اقتصادي
إلى أي مدى يستطيع الاقتصادي الليبي تحمّل ومقاومة الاستنزاف الذي يتعرض له ؟ لقد تعددت أوجه التشوهات وعوامل الاستنزاف التي يعاني منها الاقتصاد الليبي . فلم يعد الأمر مقتصراً على التباين بين سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي وسعر الصرف في السوق الموازية ، او تنامي اقتصاد الظل ، والانكشاف الحاد على العالم الخارجي ، والاعتماد المفرط على مورد وحيد للنقد الأجنبي والصدمات المصاحبة له ، بالإضافة إلى الفساد الإداري والمالي .
ولقد انشغل المحللون والمعبرون والنقّاد والساسة والقنوات الإعلامية بما يخصص من نقد اجنبي لاغراض فتح الاعتمادات المستندية والحوالات والبطاقات وما يمكن حصره وبيانه منها ، وتقلبات سعر الصرف في السوق السوداء ، ودعم المحروقات ، بين ناقد ومفسرٍ ومؤيد ومشكك ؛ وغفلوا عن استنزاف آخر للنقد الأجنبي غير مراقب وغير مرخص ، كالسوس الذي ينخر في جسد الاقتصاد الليبي ومقدراته ، أراه يمثل الخطر الأكبر على احتياطيات النقد الأجنبي ، ويهدد مستقبل الاقتصاد الليبي ، ضمن قضايا مسكوت عنها او يتم تجاهلها .
واعتبره الداء ألأولى بالرصد والاهتمام ، وان توجه الجهود والسياسات نحو علاجه او على الأقل الحد من أعراضه ومضاعفاته .
الاقتصاد الليبي ، خلال فترة النزاع ، تم وصفه ، في الكثير من جوانبه ، بانه اقتصاد حرب ، تعرض لاستنزاف موارده ، ولا زال يعاني ، فضلا عن التشوهات التي يعاني منها ، والهدر الداخلي المرتبط بالميزانيات العامة السنوية المتضخمة التي تتجاوز موارده المتاحة . الاقتصاد الليبي يعاني من تسرب موارده إلى الخارج ، حيث صارت ليبيا ، في ظل اقتصاد الحرب وعدم الاستقرار والانقسام السياسي والمؤسساتي ، تموّن وتمول الدول المحيط بها ، دول الجوار . وكانّه أريد لليبيا الاّ تستقر لتستمر فيها عمليات الاستنزاف لمصلحة الدول المستفيدة .
تستقبل هذه الدول المجاورة ، عن طريق التهريب ، النفط الخام ومنتجاته ( البنزين والديزل ) والسلع الغدائية الرئيسية والملابس ، السلع الكهربائية والكهرومنزلية ، الخردة الذهب الخام ، والنقد الأجنبي ، الأدوية، والسجائر ، وحتى الحيوانات الحية ، والمركبات الآلية ، وتوفّر ليبيا ملاداً لأكثر من مليون مهاجر غير شرعي ، بين عابر ومستقر ، وعمالة اجنبية غير نظامية .
يتم خروج هذه السلع والموارد إلى دول الجوار ليس في صورة اعادة تصدير يدعم الميزان التجاري الليبي ، وميزان المدفوعات ، ولكن ضمن نشاطات التهريب ، تحت مظلة الفساد ، وانتهازا للأوضاع غير المستقرة والانقسام السياسي والمؤسساتي . ليبيا لا تنتج كثيراً مما يهرب منها بل تعتمد على الاستيراد لتوفير احتياجاتها من مختلف السلع والمنتجات ومستلزمات الإنتاج ، واقتصادها مكشوف على الخارج بنسبة تصل إلى 80٪ .
ومصدر تمويل هذه السلع والمنتجات التي يتم تهريبها والنقد الأجنبي الذي يجري تحويله ، ايرادات النفط ، باعتبارها سلعاً مستوردة من الخارج في الأصل . حيث تقدّر تحويلات المهاجرين والعمالة الأجنبية ، في القطاع غير الرسمي ، عبر السوق السوداء ، اكثر من 2.5 مليار دولار سنوياً ، كما تشكل قيمة ما يتم تهريبه من الوقود اكثر من 30% من فاتورة المحروقات . وتشير عديد المصادر إلى ان قيمة مايتم تهريبه من السجائر ،عبر الحدود الليبية ، يقدر بحوالي 500 مليون دولار سنويا بما في ذلك الضرائب المفقودة عليها ، وان قيمة ما تم تهريبه ويجري تهريبه من الذهب الخام يتراوح بين 500 مليون إلى 2 -3 مليار دولار خلال الفترة .
وكيفية تمويل ما يتم تهريبه وتحويله ، اِمّا ضمنياً ، باستخدام احتياطيات النقد الأجنبي للدولة الليبية التي تراكمت في السابق لدى المصرف المركزي ؛ او بايرادات النقد الأجنبي الجارية مباشرة ، خلال فترات ارتفاع أسعار النفط ووفرة الإيرادات ، كجزء مما يتم استيراده و تغطيته بالنقد الأجنبي باعتمادات مستندية وحوالات للأغراض التجارية تستهدف السوق المحلي ولكنها تنتهي إلى خارجه ، او ذهب خام يتم تهريبه ، مستخرج من مناجم ليبية في المناطق الحدودية جنوب البلاد ؛ وكل ذلك على حساب الاحتياطيات التي تعتبر خط الدفاع الاول عن سعر صرف الدينار الليبي .
وحتى ان كانت هذه السلع والمنتجات المستوردة التي يتم تهريبها وتحويلات العمالة الأجنبية غير النظامية التي تجري سنوياً ، وتهريب الوقود ، يتم تمويلها من ايرادات النفط الجارية ، فهي في كل الأحوال تتم على حساب احتياطيات النقد الأجنبي وعلى حساب استقرار سعر صرف الدينار الليبي ، وعلى حساب الناتج المحلي الإجمالي ، و نتيجتها تراجع احتياطيات النقد الأجنبي على نحو متتالي منذ عام 2010 .
وبالرجوع إلى النشرة الاحصائية التي تصدر عن مصرف ليبيا المركزي دوريا ، بهدف تقدير حجم احتياطيات النقد الأجنبي ، غير المنشورة ، باستخدام ارقام صافي الأصول الأجنبية المقومة بالدينار الليبي ، المنشورة ، وتطورها خلال الفترة مند عام 2010 إلى الربع الرابع من عام 2024 ، وباستعمال متوسط سعر الصرف الرسمي للدينار خلال هذه السنوات ، نجد ان قيمة هذه الاحتياطيات ، مقومة بالدولار ، قد انخفضت من 98.33 مليار دولار إلى 76.960 إلى 73.89 إلى 72.57 مليار دولار ، خلال السنوات 2010 , 2015 , 2020 , 2024 على التوالي . اي ان قيمة الاحتياطيات قد تراجعت من 98.33 مليار دولار عام 2010 إلى 72.57 مليار دولار عام 2024 بنسبة تقدر ب 26 ٪ .
وقد تجسّد تراجع احتياطيات النقد الأجنبي في شكل عجز بميزان المدفوعات خلال الأربعة عشرة سنة الماضية ، انخفض خلالها سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي من 0.74 دولار سنة 2010 الى 0.18 دولار في سنة 2024 بنسبة انخفاض تقدر ب 75.6 % . وبذلك يعتبر تنمية احتياطيات النقد الأجنبي سنوياً ، لدى المصرف المركزي ، شرطاً ضرورياً لاستقرار سعر صرف الدينار الليبي .
ان استمرار نشاطات التهريب باشكاله المختلفة ، وتدفق العمالة الأجنبية غير النظامية والهجرة غير الشرعية وتحويلاتها بالنقد الأجنبي ، والإنفاق العام المنفلت وغير الكفوء ، والفساد ، والتشوهات التي يعاني منها الاقتصاد ، وبعض السياسات الاقتصادية والنقدية الخاطئة التي تم اقرارها وتنفيذها ، يشكل واقعا غير قابل للاستدامة ، ضاعت في ضله العديد من الفرص البديلة التي تحمل الاقتصاد تكلفتها ، حتى صار الاقتصاد الليبي لم يعد قادراً على تحمّل المزيد منه ، ويندر بتعرض الاقتصاد الليبي لصعوبات اكبر و مختنقات ، وتكريس حالة الخلل الهيكلي الذي يعانيه ، ويهدد حاضر ومستقبل التنمية ، وتدني معدلات النمو الاقتصادي .
والسؤال الذي يطرح في هذا الصدد ؛ ما الذي يمكن القيام به والسياسات الواجب اتباعها لوقف النزيف والمحافظة على مقدرات الاقتصاد الوطني ؟
1- توحيد المؤسسات السيادية ، والسياسات العامة ، وانهاء الانقسام السياسي والأمني .
2- تقدير الاحتياجات الفعلية للاقتصاد الليبي ، من مختلف السلع والمنتجات التي يجري استيرادها من الخارج ، دورياً ، تؤسّس عليها سياسة تجارية واضحة المعالم ، يتم على اساسها توفير النقد الأجنبي لأغراض فتح الاعتمادات وفقاً للاحتياجات الفعلية ، في تناغم تام بين السياسة التجارية وسياسة ادارة النقد الأجنبي لدى المصرف المركزي .
3- وضع سياسة جمركية ، تستهدف السلع غير الضرورية والتي تستنزف مبالغ كبيرة من النقد الأجنبي ، وعلى النحو الذي يحول دون تهريبها او التربح من وراءها خارج الحدود بطرق غير نظامية وخارج القنوات المرخص لها .
4- تنظيم دخول العمالة الأجنبية إلى البلاد ، وتحديد اعدادها ، والحد من الهجرة غير الشرعية ، وتنظيم إجراءات تحويل النقد الأجنبي عبر شركات ومكاتب صرافة مرخص لها .
5- تحمل الحكومة مسؤليتها التامة في مكافحة التهريب ، واحكام السيطرة على المنافذ الحدودية . ووضع استراتيجية محكمة تحول دون تسرب السلع والمنتجات إلى دول الجوار ، واحتكار نشاطات استخراج الذهب والمعادن الثمينة .
6- اصلاح سعر الصرف ، وعلى النحو الذي يفضي إلى السيطرة على السوق الموازية للنقد الأجنبي وقيادة السعر ، وصولا إلى القضاء على هذه السوق ، وإلزام جهات الاستيراد والتصدير بالتعامل عبر القنوات المصرفية المرخصة .
7- اصلاح دعم المحروقات وفقا لاستراتيجية وطنية محكمة لها إطار زمني يضمن التدرج في المعالجة ، يتم من خلالها دعم المستهلك ، وتنظيم توزيع و استهلاك الوقود .
8- دعم نشاطات التصدير عبر القنوات المصرفية ، و تنظيم نشاط اعادة التصدير واجراءات تسهيل التجارة ، والتنسيق والتعاون مع دول الجوار .