عندما أفكر في أولئك الأرواح العظام الذين غادرونا..!
وأيضا أولئك الذين بقوا منهم أحياء ولا يزالون قابعين في قبوهم المعتم منتظرين الجرح المميت متى يشفى..
بين حين وآخر، ومن قاع نهر الحياة الخفي، تتصاعد أرواح عظيمة في هيأة البشر، ومثل إشارات نور تنطلق في سماء ليل حالك منذرة بالخطر الداهم المقبل كان رحيلهم..
لكنّ نداءها لم يلق ولا يلقى الإصغاء حتى الآن من الجموع، وخاصة من أولئك أصحاب الصنف الرديء من الأرواح (وهم صنف يطفو في سماء الثقافة والفكر والسياسة والأدب)، هي شخصيات يركب أصحابها صهوات مزيفة وجيادا من ورق مسرجة بالإرث القديم والطباع السيئة، وهؤلاء لا يمكن رؤية أكاذيبهم إلا مثل شواهد قبور متساقطة بين الآثار الرائعة للمبدعين الثوريين الأوائل الذين أرغم من بقي منهم حيّا على خنق عبقرتيه، وانزوى بذاته وحيدا حيث العبء أثقل وحيث العذاب أكبر..
هي إذن ثقافة تلك الأرواح الطافية، أرواح العصر المزيفة قبل وبعد الثورة، أصحاب تلك الشخصيات المأساوية بدأت بالمصادفات، وفي هذه الأجواء من المصادفة نراهم متربصين دائما لنيل أي مكسب وهم ينخسون جيادهم الورقية منطلقين بلا هوادة، حتى أولئك الذين أحاطت بهم لعنات السلطة، هم يركضون، مسخرين كل قواهم لخدمة الغول الذي يظنون أنه يمنحهم القوة ويمنحهم التميز والفتوة، وهم في الواقع من يرتكب أكثر الجرائم همجية ومبعثة على الاشمئزاز، ومرسخين كل ما هو زائف وباطل ومدمر للحياة،حيث كل ما هو مادي ووحشي يصبح ميسورا في غياب الفضيلة والقانون..
هؤلاء الذين يسيطرون اليوم على ساحات الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية هم أصحاب الأرواح التي تنسف ما تبقى من البناء المتداعي لمجتمع مهتريء بالأساس..
مع هذا، ثمة فصيل من الشباب هم رائعون حقا، ولكن تهشمت رؤيتهم واختلت، وكل صاحب روح من أولئك الشبان يعيش في عالم غير حقيقي في الواقع، عالم محاط بالأشباح وبالأماني الخائبة، ويمضي أيامه ضحية فراغه الداخلي مجترا عقم عذاباته وإحباطاته. وفيما يتركز هذا الألم شيئا فشيئا يكتشف هؤلاء الشباب في انعزالهم بحسرة ويأس نبع الحياة المفقود، بينما يراقبون أرواحهم تمر عبر اللهب غير عابئين بشيء..
لقد أمسى كل شيء توقعناه، كل شيء خفناه وأرعبنا حتى الموت، وكل شيء ثرنا عليه ولم يؤد بنا إلى نتيجة مرتجاة، نضالنا من أجل تحرير أنفسنا من أغلال السنوات الأربعين السوداء في طاعة أهوائنا ونزواتنا وجنوننا، ومضينا بكل هذا إلى الضد، وأصبحنا نفس العدو الذي نكرهه، ولعبة لا يهمها إلا أن تخط بلون مشؤوم جرائم تافهة تضاف إلى حساباتنا المثخنة بالوهم والضلال..
ربما علينا الأن ألا ننظر بشك إلى حقيقة أننا في طريقنا إلى استسلام أكثر جلبا للهزيمة والعار بعد أن ندرك برعب مضاعف حقيقة العار الخانق الذي يخنق أنفاسنا، ونتحول إلى أشلاء هامدة لا روح فيها..
هو عارنا الخاص إذن، بل جيش كامل من العار يتحرك أمام عيوننا، نشعر به جميعا ويتقد في قيعان نفوسنا مثل جمرات حية. وليس من المفيد أبدا كيل التهم للآخرين، مثل من يلوم السائرين الملتفتين إليه ويطلب منهم بأن يغمضوا أعينهم بينما هو يمشي بينهم مكشوف العورة..
هم لن يسمعوا احتجاجه، ولن تعير القوى الوحشية التي تحيط بنا (الجيران الجياع والشركات العابرة للقارات) أي اهتمام لاستياءاتنا أو صرخات ألمنا واستغاثاتنا..
إننا الآن مهيجون على نحو لا يصدق، معسكرون من قمة الرأس حتى أخمص القدم (حتى من يدعي غير ذلك)، وليس فينا بالرغم من عسكرتنا صراع حاد ووحشي توجهه تلك الأنوار التي انطلقت في سماء الليل الدامسة قبل أربعة عشر عاما، ولا معارك بطولية حقيقية نخوضها ضد أنفسنا كالتي خاضها كثير من قديسي تلك السنة..
ويمكن القول الآن بمعنى من المعاني أن حياة هؤلاء كانت بحثا حقا عن السبيل الصحيح لكسر الأغلال، الطريق الذي آمنوا آمنا نحن به أيضا وقتها بأنه سيمنحنا الحرية حقا، أما الآن، فنحن سنظل معسكرين بثياب التعمية هكذا لوقت طويل نبلع في بطوننا نفايات المجد تحت موائد أسيادنا المخادعين، ونستمريء الجنون الذي يغلق علينا أي منفذ للخلاص، وكم هو مؤسف (في الوقت الحاضر غير عابئين بالورم الخبيث الذي يعبث بأرواحنا) أننا لم نحتفظ بأي وميض للقبس الذي تركه لنا فيه هؤلاء القديسون الشبان قبل رحيلهم..
وهنا تظل أحلام كل معاني الوطنية والانسجام والسلام والمشاركة أنواعا من السراب ستظل تخدعنا فيما نحن ماضون بقوة تحت الانحطاط والإذلال وكل شكل من أشكال التمزق، وتضلل أرواحنا العنيدة المتحاربة المنحرفة منذ الأساس..
وليس صحيحا أبدا القول: إن الذي حدث إنما حدث بقوة الضرورة. ولكن، ربما إذا حاولنا جاهدين أن نُبقي على ما تبقى من أرواحنا يقظة، فإننا قد نصل إلى هذه الحقيقة..
لو أن أرواحنا ظلت مستيقظة منذ تلك السنة التي منحتنا الإشراق، لما استسلمنا للغرائز المنحطة حين تملكتنا مشاعر وحشية بعد تلك السنة بأننا أبطال، وأننا في طريقنا بأن نكون منابع إلهام للأجيال القادمة وأننا نصنع لهم تاريخا مجيدا..
نحن اليوم مجرّد أرقام في روليت الحرب، لا ندري عند من سيتوقف دولاب الموت وبمن سيفتك هذا العدو الذي نظن أننا نعرف وجهه ونرى يده القاتلة، ويمسك بأعناقنا جميعا..
وننام في الليل نتوسد مخاوفنا وتمر بأذهاننا صور الصفقات التي تعقد فوق قبور شبابنا والتنازلات والانحيازات والإئتلافات، ونعرف يقينا أننا نواجه عدواً غير مرئيّ، يعرف مواضع ضعفنا، وأن ذلك العدو الظاهر ليس أكثر من عامل توصيل طلبات وليس أكثر من سكين تمسك بها يد خفية تتحرك في خفة لعينة وراء مكاتب الشركات العابرة للقارات..
في النهاية، حين لم يعد أمامنا ما يعزز كبرياءنا إلا أفكاك الموت منبوذين، آنذاك لن يكون في وسعنا إلا أن نصرخ طالبين الرحمة وقد هزمت أرواحنا..
بالطبع، معادلة هذه النهاية لن تتأتى إلا بإجراء جذري، حالة من الاستماتة التي ليس هناك غيرها، حالة نادرة وفريدة ورمية القدح الأخيرة التي هي وحدها من يوصل للخلاص عند أبواب الجحيم.