قياس أقرن…أولًا، ينبغي تقرير أن ما يحدث في ليبيا هو مشكل سياسي أخلاقي بالدرجة الأولى، ومهما بلغ من التعقيد والحدة، ينبغي أن يعالج ضمن إطاره السياسي، لا أن ينقل إلى ساحة المقدس الديني.

إن إدخال النصوص الدينية لتبرير مواقف سياسية يربك الفهم العام، لأنه يحول الاجتهاد البشري إلى موقف يظن أنه يمثل الحقيقة المطلقة. وهنا تكمن الخطورة؛ حين يتم دعم الخيار السياسي باعتباره الأقرب إلى الصواب الديني، يفهم ضمنًا أن الرأي المخالف خروج عن الجادة، وبعيد عن الدين!وهكذا يتحول الخلاف السياسي إلى تخوين وتكفير معنوي.

إن حرمة الدين وقداسته تستوجب عدم الزج به في ميدان يتغير بتغير المعطيات والمصالح والظروف، خاصة إذا كان الخلاف السياسي يحدث بين مسلمين، في بلد مسلم، وضمن إطاره السياسي والوطني.لذلك، يجب أن تبنى المواقف وتناقش الأراء وتبرر في إطارها الواقعي، بعيدًا عن سلطة النص، صونًا للدين من التوظيف، وصونًا للناس من الحيرة واللبس.

إن الترويج لدعم طرف سياسي على غيره من الأطراف بحجة كونه أهون الشرور، لا يصمد عند الفحص الواقعي.فما يُعرض على الناس ليس تخييرًا بين معروف ومجهول، بل بين سيلا وتشيربدس، بين الغولة وسلال القلوب، بين من يسرق قوتك ومن يشفط دمك؛ فأيهما أهون من الآخر؟! ثم إن الحديث عن “المصلحة” و”أخف الضررين” لا يمكن أن يكون مرجعية نهائية ما لم يحدد: مصلحة من؟ وأهون الضررين بالنسبة لمن؟ فهناك شرائح واسعة من الناس ترى المصلحة في غير هذا التوجه أو ذاك، وكلها تنطلق من تقدير عقلاني أو تجربة واقعية.

فهل يعقل أن تصوّر هذه الرؤية المخالفة وكأنها خروج عن الدين؟ هنا يتضاعف الخلل. لأن جعل النص الديني في خدمة خيار سياسي يفتح الباب لتقديس ما هو بشري، ونزع الشرعية السياسية عن أي موقف مغاير، حتى لو استند هو الآخر إلى قِيم أو معطيات لا تقل وجاهة.الواجب الوطني والأخلاقي ليس تقبل أحد المفترسين، بل السعي لكسر القيد الذي يفرض علينا هذا “الاختيار الخاطئ”.ولا يجوز أن تفرض على الناس ثنائية زائفة، ثم يلاموا إن رفضوا الانتحار على أحد جانبي الفساد.الركون إلى أحد الفاسدين خوفًا من الآخر لا يحمي الوطن ولا المواطن، بل يسقطهم في شر كليهما، ويمنح الظلم شرعية أخلاقية زائفة.لا ينبغي أن تتخذ نتائج الأفعال ذريعة للتخلي عن المبدأ الأخلاقي الأسمى، وهو رفض الظلم والفساد بكل أشكاله وصوره.ولا أن تبنى مواقف المصلحين على ما هو كائن من فساد، بل على ما يجب أن يكون صلاحًا.إن تحقيق هذا المبدأ ليس مستحيلًا، بل ممكن جدًا، إذا اجتمع على ذلك وعي الناس، وصبرهم، وإيمانهم بأن الموقف الأخلاقي لا يمكن أن يكون حليفًا لمسار الفوضى، بل هو الشرط الأول للخروج منها.