“غنيوة” .. و مستقبل تونس والحال أن خبر مقتل “غنيوة”، الشخصية الأمنية الأهم في طرابلس، يسلّط الأضواء على ليبيا من جديد.

أكتب هنا بعض الأسطر عن تجربتي في ليبيا، وبعض الخلاصات (غير موضوعية)… وعن تونس في كل هذا.عملت في ليبيا، ولي فيها ذكريات جميلة؛ مزيج من الشغف والخوف أحيانًا (خلال فترات الحرب)، واستكشاف بلد بحجم قارة، بلد جميل بأهله قبل كل شيء، وبطبيعته.عشت هناك مواقف إنسانية لا تفارقني إلى الآن. لديّ أصدقاء كثر، وأعرف معظم مطاعم ومقاهي طرابلس، ولا أذكر أني دفعت مرة في مقهى أو مطعم؛ الليبيون مضيافون وكرماء.

أكثر ما كنت أحاول فهمه في ليبيا هو: كيف يمكن لبلد بهذا الغنى البشري، وأطول ساحل على المتوسط، وبوابة لأفريقيا بموقعه الاستراتيجي التجاري المهم، ومياهه الجوفية، وأراضيه الخصبة، ومساحته الشاسعة، ونفطه وغازه وذهبه ومعادنه… أن يكون في هذا الحال؟ يعاني دوريًا من الأزمات: شح في السيولة، انقطاع في الكهرباء، بنية تحتية صحية متواضعة، طرقات متهالكة، وحالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني المزمن…

كنت دائمًا أقارن الوضع بتونس، التي كانت تبدو في حال أفضل، رغم أن مواردها أقل بكثير (وقد يكون هذا الانطباع غير دقيق).الجواب على هذا السؤال أخذ مني سنوات، وهو أقرب إلى جواب تدريجي.في سنة 2011، بعد سقوط النظام، كان من البديهي في تونس أن نتجه نحو التنظم في أحزاب وجمعيات ومجتمع مدني ونقابات، وأن نخوض عملية سياسية وانتخابات ونحتكم إلى الصندوق.

ليس لأن التونسيين عباقرة، بل لأن رب العالمين سترنا من ثقافة “من تحزّب خان”، ومن التجريف الشعبوي العنيف الذي طمس الأجسام الوسيطة.في ليبيا، لم يكن التنظم في أحزاب سياسية أمرًا بديهيًا، بل العكس؛ كانت – ولا تزال – هناك ريبة من الأحزاب والسياسيين عمومًا، تُعامل كمحل شبهة، وترتبط بالعمالة والخيانة… وغير ذلك من القاموس الشعبوي السائد.وهو نتاج طبيعي لأربعة عقود من الشعبوية والتجريف السياسي والثقافي، والتدمير الممنهج لكل الأجسام الوسيطة.بقي المجتمع دون أي شكل من أشكال التنظم، وتعاني ليبيا من ذلك إلى اليوم، حيث رويدًا رويدًا، ملأت الميليشيات الفضاء العام و الحال هو ما نرى .

ولا تزال ليبيا ترزح تحت ثقل الشعبوية والتجريف الذين عاشتهما قبل 2011.ما عاشته ليبيا من تجريف وتجريم للسياسة، وتدمير للأجسام الوسيطة، وضرب للنخب، وتخوين لكل رأي مخالف… نعيشه اليوم في تونس.ما نعيشه من شعبوية اليوم، هو ما عاشته ليبيا بالأمس؛ سندفع ثمنه غاليًا في المستقبل، وسنعاني منه لسنوات.هناك، بلا شك، فوارق في التفاصيل، لكننا نعاني اليوم مما عانت منه ليبيا بالأمس.

وسندفع الفاتورة قطعًا… ما لم نوقف هذا التجريف.