كتب رئيس الحكومة الليبية السابق فتحي باشاغا: بينما يمضي العالم قدمًا في دروب المعرفة؛ يؤسس مراكز الأبحاث ويغرس في أجياله حب العلم والتطوير، فتُبنى العقول على أسس التجربة والتحليل والاستنتاج، وتتسع الآفاق لما كان حتى الأمس القريب ضربًا من الخيال، أما نحن، فنُعيد تدوير أساطير الماضي وكأننا عالقون في حلقة زمنية مغلقة، نبتعد عن منطق البحث العلمي ونغرق في دوائر من الجهل والتخلف، حيث تحل الخرافة محل العقلانية ويصبح الركود عنوانًا لمؤسساتنا.
وقال باشاغا: في مختلف الدول، تُستثمر المليارات في الأبحاث العلمية وتُنشأ الجامعات والمعاهد المتخصصة لتطوير العلوم الطبية والهندسية والطيران والحوسبة الكمومية، حيث تُحل أعقد المسائل، من فك ألغاز الأمراض المستعصية إلى تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، ومن إعادة تعريف فهمنا للكون عبر نظريات الكم إلى ثورات هندسية تغيّر وجه الصناعة، بينما نحن لا نزال نناقش البديهيات ونخوض معارك جانبية تستهلك طاقاتنا وتكرّس التراجع حتى أصبحنا نشهد ظواهر تعيدنا إلى عصور الظلام.
وأضاف: ” وما حدث مؤخرًا في مدينة الأصابعة مثال صارخ على ذلك، فبعد اندلاع حرائق في عدد من البيوت، لم يتجه البعض إلى البحث عن الأسباب بأسلوب علمي، سواء كان عطلًا كهربائيًا أو مواد قابلة للاشتعال أو ظاهرة طبيعية أو حتى عملاً جنائيًا، بل سارعوا إلى تفسيرات غيبية تريح العقول من عناء التفكير، وانتشر الحديث عن “الجن” وكأن اللجوء إلى المجهول هو الحل الأسهل للعجز عن الفهم، والأدهى أن بعض الجهات الرسمية لم تكتفِ بالصمت، بل دعمت هذا النهج، وكأن الدولة نفسها تكرّس ثقافة الهروب من العلم إلى الخرافة، بدلًا من أن تكون منارة للوعي والتفكير العلمي.”
وتابع: “هذا لا يعني إنكار العوالم الغيبية، فقد جمع المسلمون الأوائل بين الإيمان والبحث، فكانوا روّادًا في الفلك والطب والرياضيات، ولم يركنوا إلى الغيب أو يعطلوا عقولهم أمام الظواهر الغامضة بل سعوا إلى كشف أسرارها بالبحث والتجربة. أما اليوم، فنحن أمام نمط تفكير يكرّس الجهل ويقيد العقل، وكأننا نسير عكس مسار التاريخ.”
وأردف قائلا: “لا يسعنا هنا إلا أن ندعو الله أن يحفظ أهلنا في مدينة الأصابعة وأن يكون لهم عونًا في هذه المحنة، فقد أثبتت المدينة أن التضامن الشعبي هو السلاح الأول في مواجهة الأزمات، خاصة في ظل غياب الدولة التي أصبح تقاعسها سمة ملازمة لكل كارثة تمر بها البلاد، فبينما يعاني المواطنون آثار الفاجعة، ينشغل المسؤولون بالبحث عن منابع المال العام لملء حساباتهم، متناسين مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية تجاه الناس.”
واختتم الرئيس السابق للحكومة الليبية مقاله بالقول: “إن هذه الأزمة تذكّرنا مجددًا بحجم الفجوة بين الواقع وما ينبغي أن يكون، ففي حين تبني الدول أنظمة متطورة لإدارة الكوارث والاستجابة السريعة وفق أسس علمية، لا يزال التعاطي مع الأزمات لدينا محكومًا بالارتجال والتفسيرات البدائية التي تعطل العقل وتكرّس التخلف.. ومع ذلك، يبقى الأمل معلقًا بوعي الناس وإدراكهم أن نهضة أي مجتمع تبدأ عندما يواجه مشاكله بحلول علمية وعملية، بدلًا من الركون إلى الأوهام وتعطيل التفكير.”