تمر ليبيا اليوم بمرحلة دقيقة من تاريخها السياسي، تتطلب من الجميع التحلي بأقصى درجات المسؤولية، والابتعاد عن الخطوات الأحادية التي من شأنها تعميق الانقسام وتعطيل مسار الحل السياسي المنشود. وفي هذا السياق، أجد نفسي مضطرًا للتعليق على ما قام به رئيس المجلس الرئاسي السيد محمد المنفي من مخاطبة لمجلس النواب بطلب اعتماد ميزانية، وهو أمر أراه في غير محله، وغير منسجم مع الواقع المعقد الذي تعيشه بلادنا.

ليبيا منقسمة سياسيًا ومؤسساتيًا، ومن غير المنطقي ولا المقبول دستوريًا أو قانونيًا، صرف ميزانية لحكومتين في دولة واحدة. فالنظام المالي للدولة الليبية وُضع لتسيير دولة موحدة، بحكومة واحدة. فلا يجوز مأسسة الانقسام أو تغذيته.

كما أن ما نتابعه من محاولات داخل مجلس النواب لتمرير ميزانية مخصصة للتنمية، في ظل هذا الانقسام، يُعد أيضًا تجاوزًا خطيرًا. فالحكومة القائمة في الشرق تفتقر إلى الاعتراف الدولي، أما الحكومة القائمة في طرابلس فقد سُحبت منها الثقة من قِبل مجلس النوّاب، ما يجعل الطرفين بلا شرعية كاملة، وكلاهما يفتقر إلى الأساس الدستوري والقانوني لإدارة المال العام، وبالتالي فإن أي إجراء لاعتماد ميزانية وصرفها، يُعد مخالفة واضحة وانزلاقًا نحو مزيد من الفوضى والفساد.

ما نحتاجه اليوم ليس ميزانيات لحكومات منقسمة، بل مسارًا سياسيًا واقعيًا يُنهي حالة التشظي، عبر توافق على حكومة واحدة، أو بالاتفاق على شكل نظام جديد، كالنظام الفدرالي، إذا كان هو ما يحقق الاستقرار ويحافظ على وحدة الدولة. أما الاستمرار في صرف الأموال والميزانيات في ظل غياب دولة واحدة أو اتحادية، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الهدر والفساد والانقسام.

إن لقاء برلين المزمع عقده بعد يومين، وما سيليه من حوار سياسي بتيسير من بعثة الأمم المتحدة، يمثل فرصة حقيقية للانطلاق نحو حل جامع، وحتى يتحقق ذلك، فإنني أرى أن الإجراء الأنسب في الوقت الراهن هو الاكتفاء بصرف مرتبات المواطنين وفق القاعدة المعروفة “واحد على اثنى عشر” من ميزانية العام الماضي، فهذا هو الإجراء الأكثر اتزانًا والأقل ضررًا إلى حين التوصل إلى اتفاق سياسي شامل يعيد للدولة وحدتها ويضمن شرعية إنفاقها.

فليكن صوت العقل هو الأعلى، وليكن هدفنا جميعًا استعادة دولة واحدة، بمؤسسات موحدة، وإنفاق رشيد، يعبر عن شرعية حقيقية لا عن واقع منقسم.