منذ نشأة الدولة الليبية الحديثة، لم يسجل على طرابلس أنها خرجت علي حاكمها بل كانت دائما محتفظةً بمكانةٍ مركزيةٍ في تشكيل القرار الوطني؛ فهي لم تكن مجرد عاصمة جغرافية، بل القلب السياسي والرمزي للبلاد، وعلى مدار عقود، اختارت طرابلس أن تحتمل أكثر مما تحتج، وأن تكون حاضنة للسلطة لا كاسرةً لها، وأن تصبر أكثر مما تصرخ، لم يكن ذلك ضعفًا أو خنوعًا كما قد يتوهم البعض، بل لأن الحكمة الوطنية كانت في كثير من الأحيان، تُحمّلها مسؤولية الاتزان وسط العواصف، فآثرت أن تُبقي جراحها داخلية على أن تفتح بوابات الفوضى.

لكن، كما أن للصبر حدودًا، فإن للمدن الكبيرة لحظاتها الحاسمة. واليوم تُسطّر طرابلس صفحة جديدة في تاريخها، صفحة عنوانها الغضب الشعبي، والصوت المرتفع في وجه سلطة فقدت شرعيتها الأخلاقية والسياسية؛ الآلاف خرجوا في قلب العاصمة ليس بدافع تحريض خارجي، ولا ضمن لعبة استقطاب سياسي، بل لأنهم رأوا واقتنعوا أن حكومة عبد الحميد الدبيبة، التي جاءت تحت راية “الانتقال” و”الوحدة”، لم تعد تعبّر عنهم، بعدما تحوّلت إلى عبء اقتصادي وأخلاقي، وقادت البلاد إلى شفا الانهيار.الدبيبة في نظر المتظاهرين وقناعتهم، لم يفشل فقط في تحسين معيشة المواطنين، بل أصبح عنوانًا للانسداد، والتفرد بالقرار، والفساد والإفساد؛ المشهد اليوم لم يعد مجرد أزمات معيشية خانقة، بل سلسلة من الانهيارات المتلاحقة؛ غلاء يفتك بالناس، ومؤسسات مشلولة، ودماء تُراق في شوارعٍ يُفترض أن تكون آمنة؛ الأمر تجاوز الاقتصاد، وتحول إلى مواجهة مفتوحة مع سلطة تُمارس الحكم بمنطق الاحتكار لا الشراكة.طرابلس التي لطالما حاولت أن تبقى خارج معارك التصفية والانقسام، قررت اليوم أن تكون ساحة للتصحيح، لم تخرج لتقوّض الدولة، بل لتُنقذها، ولم ترفع صوتها لتفكك الوطن، بل لتعيد رسم خريطته الأخلاقية والسياسية.إن خروج طرابلس لا يُقرأ كمجرد تظاهرة، ولا يُختزل في كونه حدثًا عابرًا، هو لحظة تحوّل تُذكّر الجميع أن العواصم قد تصمت طويلاً، لكنها حين تتكلم، تُغيّر المعادلة.