بعيداً عن المراء والجدل والخوض في أمور ما كان ينبغي أن تطرح في هذا الظرف الحساس الذي تمر به بلادنا ليبيا، غير أنها في تقديري أصبحت جزءاً من الأزمة اضافة إلى التحولات الصادمة لهذا التيار في خارطة العلاقات بين دول المنطقة والمتدخّلة في الشأن الليبي في غياب أو صمت شبه كامل لأهل الاختصاص وتراجع دورهم في تصحيح بعض المفاهيم الحساسة، فهذا تعقيب لا بد منه على ما تفضل به فضيلة المفتي قبل أسبوعين في تعليقه على ما طرحت.
لعله يسهم في إثراء النقاش ويخفف من الغلو في إطلاق فتاوى التحريم وما يترتب عنها، والاتهامات بالخيانة والعمالة واحتكار الوطنية.
فأولا: أنا لم أتعرض للحكم الشرعي وإنما تكلمت عن الواقع السياسي المعقد والذي لم ينكره أيضا في رده.
ثانيا: شخصياً أعتقد أن الإسلام نظام شامل يستوعب كل حركة الحياة (دون الخوض في تفاصيل هذا الموضوع). ولذلك فموضوع فصل الدين عن الحياة الذي لوّح به يمكن أن يقال لغيري، فأنا ابن توجهٍ ومدرسةٍ فكريةٍ من أبرز معالمها شمولية الاسلام. فهذا أمر أقبل التذكير به ولكن ينبغي أن لا يكون مجالا للمزايدة.
أين الاختلاف إذن؟
معطيات واقعنا السياسي وقضاياه:
هناك معطيات لاحصر لها في الشأن العام الليبي:
– العلاقة ببعثة الأمم المتحدة ودورها في ليبيا والتعامل معها وما يتعلق بهذا الشأن من رعايتها لحوارات واجتماعات، وما ينتج عن ذلك من اتفاقيات ومواقف تتعلق بالشأن الليبي.
– العلاقات الدولية وهي العلاقات التي تربط ليبيا بدول العالم الآخر، علاقات جوار أو صداقة أو توتر لأي سبب كان، أو مصالح مشتركة أو اتفاقيات مشتركة اقتصادية أو سياسية وغيرها من مجالات الحياة.
– الأزمات الداخلية والانقسام السياسي وما ترتب عنه من حكومات ومؤسسات منقسمة وصراعات مسلحة متكررة، لم تكن بين مجموعات صغيرة فقط، بل شملت قطاعات كبيرة ومساحات جغرافية واسعة، وإقفالات للنفط ومصادر المياه وقعت بدعم فئات اجتماعية وسياسية لها مطالب وتشعر بالتهميش اتفقنا أو اختلفنا معها.
يترتب بطبيعة الحال على كل ما سبق اجتهادات سياسية واقتصادية واجتماعية لا حصر لها، منها على سبيل المثال: المشاركة أو عدم المشاركة في حوارات الأمم المتحدة، والتوقيع على بعض الاتفاقيات أو الرفض والاعتراض على بعض التفاصيل، والمناورة والقبول بتحفظ، والإكراهات السياسية وغيرها من التفاصيل التي يدركها كل من خاض هذه التجارب.
وكذلك العلاقات الدولية وبعض ما نتج من خلاف بين الدول تبعا لحدّة الأزمة وانقسام الوطن جعل دولة ما داعمة لطرف داخل ليبيا ما يعني أنها عدو للطرف الآخر، وتبعا لذلك زيارتها والتعامل معها فيه نظر من هذا الطرف أو ذاك، وبعض الدول انخرطت في الصراع مباشرة لصالح هذا أو ذاك، وبالتالي زيارتها من قبل أي مسؤول والتعامل معها اقتصاديا أو رعايتها لأي حوار هو محل نظر وهو يرضي طرفا ويغضب الطرف الآخر.
أما الصراعات الداخلية والانقسامات وما نتج عنها من قضايا تتعلق بالأرواح والممتلكات وحقوق الإنسان فهي كثيرة جدا، أبرزها هذه الحروب التي مزقت البلاد وما خلفته من آثار، ولم يستطع أي طرف أن يفرض مشروعه بقوة السلاح ويلغي الآخر، فما الحل؟
كل هذا جعلنا أمام عدة خيارات، ونرجو ممن لديه خيار يغيب عنّا أن يطرحه للحوار:
الخيار الأول : أن يحسم أحد الأطراف المعركة ويلغي الطرف المقابل ويعاقبه وينتقم منه، ويؤسس الدولة باجتثاث سياسي كامل للآخر وإقصائه. وهذا لم ولن يتحقق.
الخيار الثاني : استمرار الوضع الراهن الممزق، وهو قطعا غير قابل للاستمرار، واستمراره قد يؤدي إلى انهيار شامل.
الخيار الثالث : التقسيم، وهو علاوة على أنه انتكاس سلبي فهو غير ممكن.
الخيار الرابع : أن تجلس أطراف الصراع على طاولة الحوار وتبني توافقا مع خصمها، وتبحث عن حل يحفظ ما تبقى من كيان للدولة ومقدراتها ونسيجها الاجتماعي …وتضع خارطة سياسية للخروج من هذه الأزمة.
وبالنظر لهذه الخيارات هناك تساؤلات كثيرة تطرح نفسها مثلا: هل نستمر في الصراع والحروب؟
وإذا كان الجواب بنعم، فكيف؟ وإلى متى تستمر هذه الحروب؟
وهل إطالة هذه الحروب سيُبقي على كيان دولة موحدة ومجتمع واحد؟
ويمكن أن نستمر في طرح هذه التساؤلات التي تؤكد أن الأمر يحتاج إلى نظرة أعمق من إصدار فتاوى.
الاجتهاد السياسي والمعنيون به:
هذه أمثلة فقط ليست للحصر عن مئات القضايا السياسية الخلافية وما يتفرع عنها تبعا لعمق الأزمة، ومن البديهي أن كل هذه القضايا هي ميدان عمل واجتهادات الأجسام السياسية الرسمية وغير الرسمية، كالبرلمان ومجلس الدولة والحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية والمنظمات والشخصيات الفاعلة، تبعاً لتطور شتى مجالات الحياة وتطور أدواتها سواء في مجال الحكم أو الاقتصاد أوالسياسة أوالاجتماع وكل المجالات الأخرى.
فقد أصبحت سمة هذا العصر البارزة هي التخصص نظراً لتراكم التطور العلمي، فلم يعد هناك مثلا طبيب عام يعالج كل شيء كما كان سابقاً، بل لم يعد هناك طبيب جراحة أو عيون، وأصبحت الجراحة متفرعة حسب التخصص إلى أعصاب ومخ وغيرها، والعيون متفرعة إلى عدة تخصصات في الشبكية والقرنية ونحو ذلك، وفي السياسة أيضا منظمات وقوانين دولية واتفاقيات تحكم الطيران والملاحة والبيئة والعلاقات الدولية، وأشكال متعددة لأنظمة الحكم برلمانات تشرع ووزارات تنفذ وشركات متعددة ومراكز أبحاث متخصصة وأحزاب تتنافس على الحكم وفقا لبرامجها وتعارض وتراقب، وهكذا يجب وضع هذا الجانب في الاعتبار عند تناول موضوع مثل موضوعنا هذا المتعلق بمصير وطن وشعب، فإن إقحام جهة واحدة تفتي في العبادات والعادات، وتُقدّر هي وحدها مصالح السلم والحرب والصلح والهدنة، وتصدر فتاوى في كل شيء، يجعلنا أمام دعوة إلى الدولة الثيوقراطية (الدينية) بالمعنى التقليدي حتى وإن لم يقصد.
إن الإفتاء هو إخبار عن الحكم الشرعي دون إلزام، وأنقل هنا كلاما لأحد علماء ليبيا يقول فيه: “إن الإفتاء السياسي من أخطر مجالات الفتوى، وأكثرها تداخلا مع فروع المعارف، لأنه أمر ٌيتعلق بأخطر دوائر التشريع التي عليها قَوَامُ حياة البشر، ألا وهو الشأن العام -بفرعيه المحلي والإقليمي-، كما أنه يتصل بشكل مباشر بأعظم المقدسات والمحرمات في الإسلام، وهي الدين والنفس والمال والعرض، …ويعود ضرَرُهُ ونفعه أوخيرُه وشرُّه، على الفرد والمجتمع والدولة، مما يُحتّم على كل عالمٍ مُحقِق وفقيهٍ مُدقق، توسيع دائرة المشورة في صناعة الفتوى المتعلقة به، أو يتورّع – على أقل تقدير – عن الجزم والقطع بأحكام التحريم والوجوب، أو أوصاف التأثيم والتبديع، أخذاً بوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال لأحد أمرائه: (وإذا حَاصرتَ أَهلَ حِصنٍ فأرادُوك أَن تُنْزلهم على حكم الله، فلا تُنْزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حُكْمِكَ، فإنَّكَ لا تدري أَتُصِيبُ حكم الله فيهم أم لا)”، ولهذا فالسياسة تدور في تقدير المفاسد والمصالح ودفع المفاسد وجلب المصالح، والموازنة أحيانا بين مفسدتين، ومنطقة التحريم القطعي والتجريم فيها قليلة، والواقع في هذا العصر يقوم على التخصص والمؤسسات المتعددة وهو كما أسلفت يستوجب اجتهادات ومشاورات واسعة. بين الفتوى والرأي السياسي:
عودة الآن إلى محل الخلاف:
كل محطات الخلاف والجدل والاعتراض على ما يصدر عن المفتي هو القضايا السياسية فقط، ولم يكن في أي قضية محرمة بنص أو حكم شرعي مجمع عليه -معاذ الله-.
أمثلة على ذلك:
اتفاق الصخيرات وما نتج عنه يصرّ المفتي على وضعه في خانة الحرام والإثم الكبير والتشهير والتحريض على كل من شارك فيه في مناسبات متكررة، ونحن لا نحجر عليه أن يقول رأيه، فليعتبره خطأ سياسياً كبيراً أو ما يشاء، فهذا حقه، أما أن يلبسَ رأيَه في هذه المسألة بالفتوى فهذا هو اعتراضنا.
قس على ذلك التعامل مع الأمم المتحدة وبعض الدول ومسؤوليها، من حقه أن يقول أنه غير مُجدٍ أو خطأ أو ما شابه، ولكن أن يصف من تعامل معها بأنهم عملاء مثل ما قال صراحة في لقاءه فهو ما لا يُقبَل، فالحكومة التي يباركها المفتي اليوم هي صنيعة الأمم المتحدة، فكيف يستقيم أن التعامل مع الأمم المتحدة عمالة، ثم نقبل بما نتج عنه، وكذلك قيل على حكومة الصخيرات زوراً أنها دخلت بفرقاطة أجنبية وأنها حكومة عميلة.
مثال آخر:
زيارة سياسي إلى دولة ما خيانة، وزيارة آخر إلى نفس الدولة مداراة، وتكون الفتوى والدعوة بقطع العلاقات الاقتصادية مع دولة ما أو بعض الدول دون معرفة: هل توجد اتفاقيات مشتركة وملزمة لليبيا مع هذه الدول أم لا، ودون اعتبار إلى تغير الظروف السياسية التي قد تجعل عدو وخصم اليوم صديق الغد وهذا ما حدث فعلا فبعض الدول التي كانت الفتوى تحرم التعامل معها تحولت إلى صديقة وسفارتها فتحت وزياراتها متكررة، وهذا أمر مقبول في السياسة وله ظروفه، ولذلك ما كان ينبغي إلباسه بالفتوى وكان يكفي أن يعتبره خطأ سياسياً أو غير مجدٍ أو نحوه.
بل إن الفتوى -للأسف- تصدر دون اعتبار لحالة فوضى السلاح التي قد تدفع أحد الغلاة أو المتهورين لقتل الأطراف السياسية باعتبار أن لديه فتوى بأنهم عملاء وخونة، فتشارك الدار في دماء المسلمين دون قصد منها، وكل هذا قد يؤدي إلى فقدان الجهة التي تفتي مكانتها واحترامها وثقة الناس فيما يصدر عنها في هذه المسائل.
وحتى لا يفهم الكلام على غير ما قُصد منه ينبغي التنبيه إلى:
– لا أحد يدعو إلى فصل الحياة عن الدين.
– من واجب الإفتاء أن تبين الخطوط الحمراء والمحرمات القطعية المجمع على حرمتها سياسياً، وتبين ولو بشكل موجز دليلها في ذلك، وعندها لن تجد منا أدنى تحفظ.
– لا أحد يعترض أو يحجر على العالم أن يقول رأيه الخاص في هذه المسائل السياسية، فهذا حقه بل واجبه، ولكن دون إلباسه بالفتوى الدينية، ومن حق محبيه أن يأخذوا برأيه كذلك دون إنكار على الآخرين في دائرة الصواب والخطأ، بل نحن أحياناً بسبب شدة الأزمة نتحرك في دائرة دفع أشد المفسدتين واختيار أخف الضررين.
إن احتكار الاجتهاد السياسي وحصره في دار الإفتاء مُؤدّاه أننا نحتاج أن نعرض كل قضية مهما كانت اجتهادية وصغيرة، حتى ولو كانت زيارة مسؤول لدولة على الفتوى، ونقفل كل مؤسساتنا أو نطلب منها ختم دار الإفتاء في أي مسألة؟ لا أظن أحدا يقول بذلك، وهذا للأسف ما يترتب عن إقحام الفتوى في هذه التفاصيل، ولا ننكر عليهم النصح والتوجيه والإدلاء برأيهم بالحسنى، والتشاور مع أهل الاختصاص فيما لا يحرم حلالاً أو يحل حراماً، فهذه خطوط حمراء يجب على المفتي وأهل العلم أن يصدعوا بها.
أخيرا ربما يظن البعض بأنني أتكلم من منطلق خصومة شخصية، لا والله، وإني أزعم -والله على ما أقول شهيد- بأنني كنت ولا زلت أرجو للعلماء وأهل العلم والمؤسسات الشرعية أن تكون لها مكانتها واحترامها ودورها ورسالتها، وما نصحت من موقعي إلا من هذا المنطلق، وهو موجه للمنصفين أصحاب الغيرة الحقيقية على الدين والوطن، “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، ولا يعنيني ولا يخيفني ردود بعض المريدين أو المهرجين على غير بصيرة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

رئيس الحزب الديمقراطي محمد صوان