مصباح السنوسي -عضو مجلس السياسات بالحزب الديمقراطي

حين يتحدث علماء الدين في الشأن العام يتجه الناس إلى أقوالهم بقلوب مفتوحة لما للخطاب الديني من رمزية وجدانية ومكانة روحية لكن حين يتسلل الخطاب السياسي تحت عباءة الفقه ويتحوّل الرأي الشرعي إلى جزء من لعبة الاصطفافات لا ميزانًا للمبادئ يصبح المتلقي أمام معضلة هل يُنصت للفتوى أم يتأمل في خلفياتها


في حديثه الأخير عبر برنامج الإسلام والحياة تناول المفتي قاعدة أخف الضررين لتبرير بقاء حكومة الأمر الواقع معتبرًا إياها ضررًا أقل مقارنةً بمعسكر الكرامة لكن هل انحصر الواقع الليبي حقًا في هذا الخيار فقط؟ ولماذا تم إغفال أو تجاهل خيارات أخرى مطروحة؟ وهل من المقبول اختزال الأزمة الليبية بهذا التسطيح الثنائي؟

إن ليبيا اليوم لا تعيش حالة تضاد بين ضررين اثنين بل واقعًا متشظيًا تتوزع فيه الأضرار بين فساد ممنهج وتدخل خارجي سافر وانقسام مؤسسي


حين يُطلب من الناس القبول بالحكومة القائمة لأنها أقل خطرًا فكأنما يُطلب منهم اختيار مريض بالقلب بدلًا من مريض بالسرطان بينما هناك جسد سليم غائب عن الشاشة محجوب عن الأنظار لم نسمع من المفتي حديثًا عن أخف الضررين في أيام حكومة السراج التي أفتى للكانيات وأجاز لهم الهجومي العسكري علي العاصمة وحتى في فترة قريبة عندما أقدمت حكومة الدبيبة على خطوات تطبيع غير معلنة مع الكيان الصهيوني ولا حين دخلت في شراكة مع معسكر الكرامة عبر شركة أركنو ولا حين تفشى الفساد الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار
فهل تُستدعى القواعد الشرعية فقط عند الحاجة وهل تُغيب عندما تمس أطرافًا معينة؟

الضرر الحقيقي لا يكمن في الأشخاص بقدر ما يكمن في تعطيل إرادة التغيير فالأمم لا تنهض عندما تختار بين الضررين بل عندما تصر على صناعة الأصلح وتكسر وهم الخيارات الضيقة، إن أخطر ما يصيب الشعوب هو قتل الأمل وتقديم السيء على أنه أفضل ما يمكن وترويج نظرية ما في غيرهم

نجلّ علم فضيلة المفتي ونحترم مكانته لكننا نختلف مع هذا الطرح من باب الغيرة على الوطن لا المخالفة لذاتها فالوطن لا يُدار بقواعد إسعافية دائمة ولا تُبنى شرعية بالترقيع ولا يُصنع مشروع سياسي ناجح بمجرد المقارنة مع خصومه


نحن بحاجة إلى خطاب ديني يُنير الطريق لا يُجمّل العتمة وإلى قيادات تصنع البديل لا تفرض علينا أسوأ الممكنات الضرر كله مرفوض وإن كان أخفّه فذلك لا يعني قبوله بل يعني أن الوقت قد حان لصناعة الأفضل


فضيلة المفتي إننا نُقدّر غيرتكم على الوطن وحرصكم على تجنيبه الفتن لكننا نختلف مع تقديم حكومة الأمر الواقع كأخف الضررين لأن هذا الطرح يغفل حجم الضرر الحقيقي الذي تسببه هذه الحكومة على المدى القريب والبعيد فهي تُحكم بعقلية الغنيمة لا بعقل الدولة تتقاسم المناصب وتستثمر في الانقسام وتُشرعن الفوضى تحت عنوان الاستقرار


وإذا كان الفقه يُجيز الأخذ بأخف الضررين في حالات الضرورة فإن تحوّل الضرر إلى قاعدة حكم لا ضرورة مؤقتة يُسقط هذا التبرير ويستدعي المراجعة


الضرر الذي يهدد ليبيا اليوم ليس شخصًا بعينه بل بقاء منظومة تستنزف البلاد باسم الشرعية وتُغلف الفساد بغلاف الواقعية وتقايض الناس بين السيء والأسوأ بينما يغيب المشروع الوطني الحق عن المشهد