مرة أخرى موعدنا في بداية كل شهر مع مفاجآت جديدة على الوضع المالي في البلد، البيانات الشهرية أو في الأغلب الربع سنوية عن المصارف المركزية حول العالم لا تثير مثل هذا الهلع المالي وتنشر عادة في أيام العمل في الأسبوع وليس قبل عطلة نهاية الأسبوع بأقل من 24 ساعة.
الغالبية الساحقة من المصارف المركزية (الأمريكي، الأوروبي، البريطاني، الياباني، الخليجي…) تنشر بياناتها وإعلاناتها خلال أيام العمل فقط عادة من الإثنين إلى الخميس، ونادرًا جدًا يوم الجمعة قبل الإغلاق (باعتبار أن الجمعة يوم عمل عادي)، والسبب أنه يجب أن تكون الأسواق مفتوحة ومهيأة للتفاعل المنضبط مع أي خبر نقدي جديد. ولعدة أسباب جوهرية، أولا، لتفادي الهلع والتحركات غير المنضبطة حيث الأسواق تكون مغلقة نهاية الأسبوع، وأي خبر كبير عن، أسعار الفائدة، السياسة النقدية، الاحتياطي النقدي، بيانات بنوك متعثرة، يمكن أن يؤدي إلى ذعر جماعي عند افتتاح الأسبوع (Gaprisk) المصارف المركزية تعتبر هذا خطًا أحمر.
المصرف المركزي اختار ليلة الخميس لنشر البيان الشهري (نوفمبر 2025) في الرابع من ديسمبر، لا يوجد سبب رئيسي في اعتقادي لا يجعله أن ينتظر إلى يوم الأحد وهو الأنسب رسميا وتجاريا ألا سبب واحد وهو أنه اعتاد أن يصدر البيان في الرابع من الشهر وأظن أن الإدارة قد خشيت أن تم التأخير لبداية الأسبوع فأن ذلك قد يتم تفسيره خطأ من السوق، وفي اعتقادي أن هذا ليس سببا كافيا يدفع المصرف لنشر البيان بهذا الموعد، فالبيان بالطبع ستتبعه موجة إعلامية ضخمة ليس بالإمكان تجنبها وبينما يلتزم المصرف صمتا مطبقا تجاه الاعلام بعد نشر بياناته عدا التسريبات التي نراها في الصحف الالكترونية، فأن ما يقوله المعلقون سيعتبر جزءا مكملا لأثر البيان في السوق والاقتصاد على الأقل لبقية الشهر قبل اصدار البيان التالي.
وبينما أميل لعدم تقبل متوالية البيانات الشهرية وأفضل أن تكون ربع سنوية كما هو المعمول به في باقي دول العالم حيث أن البيان الشهري لا يوحي أبدا أن عملية مراجعة حقيقية قد حدثت على البيانات الخام، ألا أن الحل في رأيي أن يصدر المصرف المركزي جدولا زمنيا بموعد نشر بيانه شهريا كان أم ربع سنوي مسبقا في بداية كل سنة.
أرجع الآن لمناقشة القضية المتفجرة في بيان هذا الشهر التي أعلنها المصرف المركزي وهي قضية العجز الدولاري.
يقول المركزي في بيانه بالنص:
“بلغت الإيرادات النفطية والاتاوات الموردة إلى مصرف ليبيا المركزي خلال الفترة 20.7 مليا ر دولار، في حين بلغت استخدامات النقد الأجنبي حتى نهاية نوفمبر 2025، مبلغ 28.5 مليا ر دولار، بعجز قدره 7.8 مليا ر دولا ر تقريبا، ويأتي زيادة قيمة العجز خلال الفترة نتيجة لتدني إيرادات النفط الموردة للمصرف منذ شهر سبتمبر، تم تغطية هذا العجز من عوائد استثمارات المصرف المركزي من الودائع ومحفظة السندات والذهب، وتحقيق زيادة في الأصول الأجنبية بقيمة 2.2 مليار دولار”.
بالتأكيد كلمات ستحدث هلعا في السوق، وعلى المصرف المركزي شرحها للجمهور، ألا أن سياسة الصمت المطبق التي ينتهجها بعد اصدار البيان ستكثر من الهرج والمرج والتأويلات الصحيحة والخاطئة، أتمنى أن يعيد المركزي موقفه منها.
أنا أنطلق هنا من مبدأ أساسي وهي أن البيان في حد ذاته غير كافي، وهذا ليس عيبا أو اتهاما للمصرف المركزي، فجميع بيانات المصارف المركزية حتى المتقدمة منها وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي غير كافية، وبمجرد صدورها ينخرط رئيس وأعضاء الفيدرالي في نقاش عام في الاعلام حول مغزى البيانات ومصادرها وصلاحيتها وأثرها المستقبلي. الغياب عن هذا النقاش ونحن نراه أمامنا يغذي الاضطرابات القائمة على تحليلات غير مدروسة ولا تستند لأي منطق اقتصادي أو مالي وفي أحيان كثيرة تقاد بالمناورات السياسية حصرا.
كما أشرت فأن القضية المتفجرة في هذا البيان هي زيادة العجز الدولاري، والتفسير المحدود الذي أعطاه المركزي بتدني إيرادات النفط منذ شهر سبتمبر.
لنتحدث بالمنطق الاقتصادي حيث أن حدوث أو زيادة العجز المالي في فترة محدودة (يتحدث المركزي عن ثلاث أشهر سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر) يفترض أنه مؤشر لا يثير هلعا في الظروف العادية، فالدول المنتجة للنفط كلها تمر بنفس الأزمة حيث انخفض سعر النفط تقريبا 7% في النصف الثاني من السنة مقارنة بالنصف الأول من سنة 2025. هذا يترجم إلى ما بين 300 – 400 مليون دولار شهريا انخفاض في الايراد النفطي، الأمر وفقا للاتجاه السائد لن يقتصر على هذه الفترة فهناك موجة قادمة من حرب الأسعار والكل يتهيأ لها بداية من السعودية إلى اصغر منتج نفطي هذه الدورة ركن من اركان السوق الدولية للنفط وتستمر ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات يتم فيها التخلص من المنتجين الهامشيين في الصناعة النفطية وليبيا منفردة لا تملك أي قدرة على وقفها. إذا الدخل احتمال يتراجع ما بين 500-700 مليون دولار شهريا لمدة نتمنى أن تكون قصيرة.
ما هو التصرف العقلاني حيال هذا التراجع؟
الأمر يحتاج إلى حسبة دقيقة تعتمد على الإنتاج المتوقع خلال فترة التراجع ومدى سوء السعر المتوقع خلال هذه الفترة. التوقعات الحالية تفيد أن التراجع سيمتد إلى نهاية 2027 وأن الأسعار ستكون ما بين 55-60 دولار للبرميل. هذا سيعني أننا ربما نشهد تراجع في ايراداتنا النفطية الشهرية بما يصل ما بين 600-700 مليون دولار شهريا وهذا سيترجم إلى 7 مليار سنويا (طبعا لا نتمنى حدوث ذلك).
هنا على المصرف المركزي اشتراكا مع المؤسسة الوطنية للنفط وربما وزارة المالية أن يوعوا الناس باحتمال هذه التطورات ويتجنبوا المفاجئات الليلية في نهاية الأسبوع. وبالطبع لا يمكن للمركزي أن يعرض هذه الحقائق بدون أن يعرض ما هي خططه للمواجهة. وشخصيا لا أرى أن هذا حادثا حيث إن الأجهزة الثلاثة هي في مواقع صدامية مع بعضها البعض وليس تعاونية ولا يوجد وسيط سيادي مستقل في الدولة يجبرها على نقطة التوسط.
أن حصر خطط المواجهة كما أتابع في تعليقات الكثير من الخبراء والمختصين بضرورة إيقاف الصرف الحكومي وتجميد الاعتمادات والمراجعة والتدقيق على التحويلات الشخصية أمر غير عملي ولن يحدث وهو أقرب للحلول الاعلامية منه إلى الحل البراغماتي، وعلى كل حال فأن شركة K2 الأميركية تقوم اليوم بجزء كبير من هذا العمل (مع أنني شخصيا لا أتفق مع هذا الطرح). وكما أنه لا يمكن لي بالطبع أن أضع خطة لهذا الوضع ما بين يوم وليلة، ولكن الاتجاه العام لخطط المواجهة التي وضعتها الدول النفطية تتمثل في حلين الأول في الاستدانة وفي الأغلب الاستدانة المحلية حيث إن عبء الدين اليوم مقاسا بسعر الفائدة السائد لا يشكل ثقلا يسبب الشلل على المدى المتوسط وأن معظم الدول النفطية قادرة على الإيفاء بالدين وتكاليفه بمجرد تعافي الأسعار من جديد، الحل الثاني هو اللجوء إلى السحب من الاحتياطي وهو الحل الأخير عندما لا يعجز الدين عن سد ثغرة العجز. هذه الخطوات لا تُعلن بالضرورة بصيغة المواجهة المعلنة لدى بعض الدول لكن دلائلها تظهر مثل طرح السندات الدولارية الداخلية في السعودية والإمارات والجزائر وربما الكويت قادمة في الطريق وحتى المصرف المركزي الليبي طرح سابقًا سندات مضاربة لكنها بالعملة المحلية وبينما المشكلة الحقيقية هنا أن الأزمة مرتبطة بتدفق الدولار لا بتدفق الدينار.
اللجوء إلى الدين حل واقعي ولا مفر منه، ولكنه يجب أن يتم بنظام وليس بالفوضى التي حصلت في العقد الماضي خلال دورة الأسعار المنخفضة والتي خلقت عجزا وصل تقديره إلى 300 مليار دينار كما أعلن (لا أتفق مع هذا الرقم)، الدولة (الحكومة) يمكن أن تلجأ للاستدانة ويجب أن تحمل بقيمة سعر الفائدة العالمي عن طريق الأقنية المصرفية المعتمدة ولا يتم الانفاق ألا عن طريق موازنة معتمدة وشرعية، الدورة النقدية داخل الدولة يجب أن يتم ضبطها بسياسة نقدية أكثر تشددا من السياسة الحالية التي تسبب في تسرب قيمة الدينار إلى الخارج للاستفادة من فرق سعر الفائدة بين الداخل (صفر) والخارج (=>4%).
ما أود قوله أن هناك أخطاء واضحة في السياسات النقدية الليبية وربما ما يزيد الأمر سوءا هو الحركات غير المدروسة من المصرف المركزي والتي أتفهم أنها تنبع من الرغبة في تجنب ألقاء اللوم والمسؤولية الكاملة عليه. أتفهم تماما أن قرار اللجوء إلى الاقتراض ربما لا يقع في نطاق اختصاصاته بدون تأييد سيادي، مما لن يترك المجال أمامه ألا للسحب من الاحتياطي وهو قرار مؤلم جدا على أي إدارة للمصرف.
كذلك فأن ألقاء اللوم على الانفاق الحكومي والتمحيص والتدقيق في أوجه الصرف خصوصا الخارجية لن يجدينا نفعا من ناحية الاقتصاد الكلي، ما يتم نشره هو في حدود المعقول مقارنة بالدول المشابهة، طبعا وجود الفساد المالي في الانفاق مؤكد ألا أن التوفير الذي سيتم بالحد من هذا الفساد لن يزيل المشكلة الأساسية وهي العجز الدولاري بسبب تدني إيرادات النفط.
مثلا الفساد في الاعتمادات موجود بشدة ولا يمكن الجدل فيه، ولكن حجم الاعتمادات مقارنة بحجم عدد السكان في ليبيا في حدود المعقول، المشكلة تكمن أساسا في استغلال الموردين للأموال التي تعطى لهم أما باستيراد البضائع غير الجيدة أو التلاعب المالي. لا أتصور أن المصرف المركزي أو حتى وزارة الاقتصاد قادرين على تخفيض الرقم ألا بهامش بسيط.
ختامًا أرى أن بيان المصرف المركزي كان يملك فرصة أن يضع السوق والمواطن أمام حقيقة التحدي بوضوح لو صاحب النشر توضيح رسمي فوري يشرح مصادر الأرقام وسيناريوات المواجهة وأن يتجنب النشر في توقيت يسبق عطلة نهاية الأسبوع لأن ذلك يفاقم القلق بدل أن يسهم في إدارة توقعات منضبطة كما أكرر أن إلغاء النشر الشهري هو الخيار الأسلم وإن لم يحدث فعلى المصرف أن ينشر جدولًا سنويًا بمواعيد النشر ويقدم بعد كل بيان ردًا رسميًا يشرح الأرقام ويعرض الخيارات بدلاً من ترك الأمر لعملية تأويلات عشوائية تغذيها أحيانًا دوافع سياسية أكثر من مصلحة الاقتصاد
الخلاصة العملية هي أن ليبيا أمام احتمال تراجع إيرادات نفطية قد يصل إلى نحو 600 إلى 700 مليون دولار شهريًا في السيناريوات المتشائمة مما يعادل نحو 7 مليارات دولار سنويًا إذا استمر التراجع وأن المواجهة تحتاج إلى مزيج من الاقتراض المنظم والسحب المدروس من الاحتياطيات مع سياسات نقدية أكثر صرامة وإجراءات شفافة لإعلان مواعيد النشر والتواصل الرسمي المباشر بعد صدور البيانات لتقليل الهلع وضبط توقعات السوق.






