بقلم| عضو مجلس السياسات بالحزب الديمقراطي مصباح السنوسي
من يتابع أداء مصرف ليبيا المركزي خلال السنوات الأخيرة، يدرك أنه يتعامل مع الاقتصاد بعقلية “الطوارئ الدائمة”. كل قرار يُتخذ يبدو وكأنه محاولة لإطفاء حريقٍ لا ينتهي، لا خطوة في مسار بناءٍ اقتصادي مستقر. بين تعديلٍ في سعر الصرف هنا، وتقييدٍ للسيولة هناك، يضيع المواطن تحت ضغط الغلاء وتآكل القدرة الشرائية.
الأسعار لم تعد تعرف استقرارًا، والدينار فقد وزنه في السوق وفي الوعي العام معًا. فبينما يتحدث المصرف بلغة الأرقام والمؤشرات، يعيش المواطن بلغة المعاناة اليومية.
الاعتمادات التجارية تحولت إلى بابٍ مغلق لا يُفتح إلا بمعايير غير واضحة، والمشروعات الإنتاجية تُركت تواجه مصيرها دون تمويل أو دعم. الجميع يتحدث عن الإصلاح، لكن لا أحد يقترب من أصل الخلل: غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة.
اليوم، المواطن الليبي يقف أمام أجهزة السحب وكأنه في طابور انتظارٍ طويل على لقمة حقّه. نتيجة مباشرة لفشلٍ مزمن في إدارة السيولة. الآلة التي يسحب منها راتبه لم تعد تمثل خدمةً حديثة، بل أصبحت جزءًا من معركته اليومية مع نظامٍ مصرفي مُعطّل.
وفي حين تؤكد تقارير المصرف أن السيولة “متوفرة”، يعيش المواطن عكس ذلك تمامًا أمام شبابيك مغلقة وآلاتٍ لا تصرف إلا القليل. الفارق بين الورق والواقع أصبح هوةً حقيقية.
حتى محافظ المصرف المركزي نفسه أقرّ في أبريل الماضي بأن الإنفاق المزدوج بين الحكومتين وغياب التنسيق المالي كانا من أبرز الأسباب التي أدّت إلى تراجع قيمة الدينار. وهذه شهادة من داخل المؤسسة نفسها، تُثبت أن السياسة النقدية في ليبيا لم تعد تقود المشهد، بل باتت تكتفي بردّ الفعل ومحاولة احتواء الأزمات بدلًا من معالجتها من جذورها.
أما صندوق النقد الدولي فقد دعا في تقريره الأخير إلى إعادة هيكلة السياسة النقدية وتعزيز أدواتها. دعوة في محلّها، لكن ما تحتاجه ليبيا ليس توصيات جديدة، بل شجاعة في التنفيذ.
يمتلك المصرف المركزي احتياطيًا ضخمًا يقترب من مئة مليار دولار بين عملات وذهب، لكن الاحتياطي ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لبناء الثقة وتحريك التنمية. أن تحتفظ بالأموال دون خطة اقتصادية واضحة، يشبه من يملك سفينةً كبيرة لكنه لا يجرؤ على الإبحار.
اقتصادنا اليوم يعيش على التنفس الصناعي لعائدات النفط، دون منظومة إنتاج حقيقية أو تنويعٍ في مصادر الدخل. ومهما كانت قرارات المصرف المركزي دقيقة ومحسوبة، ستظل محدودة الأثر ما لم تُربط برؤية وطنية شاملة تُعيد الثقة وتحرّك عجلة الاقتصاد الحقيقي.
في النهاية، السياسة النقدية ليست مجرد أرقام أو تقارير تُقرأ في المكاتب. هي مقياس حقيقي لعلاقة المواطن بدولته. حين يشعر المواطن أن قرارات مصرفه تمس حياته اليومية وتؤثر على لقمة عيشه، عندها فقط يمكن القول إننا تجاوزنا مرحلة إدارة الأزمة وبدأنا نخطو نحو الحل الحقيقي.






