لا خلاف على أن الشريعة شاملة عامة في أحكامها، وهي بشمولها وعمومها لا تستثني الشأن السياسي، بل تتناوله بأحكامها التكليفية والوضعية، ومقاصدها العامة وغاياتها الكلية، ولأن الاجتهاد السياسي غالبا ما يدور حول مراعاة المصلحة المعتبرة شرعا وتقديرها من خلال الموازنة بين المصالح والمفاسد، واعتبار المآلات، وتحقيق المناطات، كان هذا النوع من الاجتهاد من أوسع أبواب الاجتهاد، حيث تختلف فيه الأنظار، وتتباين فيه الآراء، ومن تحجير الواسع والمصادرة على الآخر رأيه، التعصب فيه لاجتهاد معين، والتشنيع على المخالف، ونقل المسألة من باب الاجتهاد في الظنيات، إلى ما يشبه الحكم في القطعيات.

ولا يخفى أن أهم ما تُنتَقدُ فيه دار الإفتاء هو سلوكها في الاجتهاد السياسي، فهي تسلُك فيه مسلكاً يحجرُ على غيرها أن يجتهد، وتشنّع على من يخالف رأيها، وتضع اجتهادها في موضع يقارب درجة القطعي من الأحكام الشرعية، مع أن هذا الاجتهاد يمكن أن يُنتقد ابتداء من تصوير المسألة المجتَهد فيها، إلى ما يتعلق بتنزيلها على الواقع وتحقيق مناطها بالحكم الشرعي، وما فيها من جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو تحقيق مقصد أو اعتبار مآل.

فإذا تعقّب متعقب ما يصدر عن الدار ومفتيها من رأي أو اجتهاد، أو نَصَح ناصحٌ في ذلك دون أن يتجاوز حدود الأدب أو يحيد عن مسلك الوقار، تلقّفه المتعصبة للدار بألسنتهم الحداد، بين طاعن وهامز ولامز ومتّهم، بما يخرج عن المقصود، ويضيع النقاش العلمي، ويفوّت مقصد الإصلاح، ويؤكد أن القائمين على الدار إنما تحرّكهم الخصومة السياسية، لا الغيرة على الشريعة وأحكامها.

ولعل ما يُشن مؤخرا على الدكتور “ونيس المبروك” من حملات بسبب نقده للدار أو نصحه لها من هذا القبيل، ولأن الغالب على تيار دار الإفتاء هو التشنيع على من يخالفه ومهاجمته دون نقاشه فيما قال، ينبغي الإشارة إلى مظاهر التعصب التي صارت سمة لبعض أعضاء الدار أو المقربين منها في تعاطيهم مع من يخالفهم، ومن أبرز هذه المظاهر:

  1. إسقاط المخالف لهم بالكلية، واتهامه في دينه ورميه بما ليس فيه، فهذا يتهمه بأنه صاحب هوى، وذاك يقول بأن موقفه لانتماء حزبي أو تنظيمي، وآخر يقول أنه يقول ما يقول لعرض من الدنيا قليل.
  2. ادعاء أن انتقاد دار الإفتاء في بعض آرائها هو استهداف لها كمؤسسة، ومحاولة لإسقاطها، وسعي لإلغائها، والحق أن النقد إنما هو للإصلاح والتحسين، ولكن لأن الدار تأسست على الشخوص والأعيان، ولم تتأسس على الكفاءة والعلم، يرى من فيها أن النقد موجه لهم ويستهدفهم في ذواتهم، فهم يتحسسون من كل نقد، ويكادون يضفون قداسة العصمة على دار الإفتاء ومن فيها، لذلك أهملت الدار كثيرا من مشايخ البلاد وعلمائها الراسخين في العلم، جعلت بينهم وبينها المفاوز والمسافات، وقربت غيرهم ممن هم دونهم في العلم والتمكن.
  3. ومن مظاهر التعصب المذموم أن أي نقد يوجه للمفتي مع حفظ مقام الأدب له، يقابله سيل من التقديس والتهليل، وكأن من انتقد أو نصح نفى العلم عن المفتي أو أساء له في ذاته، وإنما الدافع لهذا هو التعصب للشيخ، حتى صار هؤلاء المتعصبة أقرب الناس في سلوكهم إلى المداخلة المتعصبين للشيخ ربيع المدخلي، فلا اجتهاد بعد اجتهاده، ولا معقب على رأيه أو فتواه.
  4. أيضا من الأمور التي يذمون بها المخالف أن يكون منتسبا لحزب له توجهه ومشروعه، أو منخرطا في مؤسسة لها منهجها وتنظيمها الذي تسعى أن يكون لها به أثر في مجتمعها ووطنها، فيجعلون ذلك مثلبة ومغمزاً، وما هم أنفسهم إلا جماعة وتيار لا يخرجون عن هذين الأمرين وإن لم يعلنوا.

إن حالة التعصب المقيت التي ينتهجها تيار دار الإفتاء في تبني اجتهاداته السياسية، وما يمارسه من إرهاب فكري واغتيال معنوي لكل من يخالفه، يؤكد على ضرورة أن تكون مؤسسة الإفتاء مؤسسة وطنية جامعة، تنسجم في دورها ومهامها مع بقية المؤسسات التي تمثل كيان الدولة، وتعطي للاجتهاد السياسي حقه من السعة وتعدد الأنظار فيه، فَتَدافُعُ الاجتهادات وتواردها على المسألة يصوّب الرأي فيها ويقومه، وعلى كل حالٍ فمؤسسة الإفتاء ليست هي المعنية بتبني الأحكام الشرعية أو رفع الخلاف في مسائل الاجتهاد، فإنما المفتي مخبِر بالحكم، ولا يتعداه بأن يكون مُجبِرا، والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.