بقلم| رباب اليفرني – صحفية

بين الهلع والحرب… امرأة تقاوم وحدها

لم تكن تدرك أماني  (اسم مستعار ) أن تلك الليلة من عام 2011 ستكون بداية رحلة طويلة مع الهلع.

كانت أصوات الانفجارات في الخارج أشبه بصفارات إنذار داخل جسدها. قلبها يخفق بعنف، أنفاسها تتسارع، وليلٌ كامل يمضي دون نوم.

لم تكن تعرف اسماً لما يحدث، لكنها كانت تعرف شيئاً واحداً: هي خائفة… وخائفة جداً.

حين غادرت أماني مع عائلتها إلى تونس “هاربة من ما حدث ”، كما تقول، كانت تعتقد أن المسافة بين البلدين كافية لتترك خوفها خلفها. لكن الهلع تبعها حتى هناك.

في جزيرة جربة، بدأت أماني رحلتها من عيادة طبيب قلب، ظنّت أن المشكلة في نبضها، قبل أن يوجّهها الطبيب إلى اختصاصي نفسي. وهناك سمعت لأول مرة التشخيص الذي سيلازمها لسنوات:

نوبات هلع واكتئاب ما بعد الصدمة.

بدأت جلسات العلاج. كان الأمر جديداً عليها، لكنه كان بوابتها الوحيدة للشعور بالاستقرار. وبعد أن هدأت الأوضاع في ليبيا وعادت أماني إلى البلاد، استأنفت العلاج لدى أطباء محليين. ظنّت أن عودتها إلى بيتها ستعيد لها توازنها، لكنها اصطدمت بواقع قاسٍ لم تتوقعه.

العلاج النفسي… رحلة مكلفة أكثر من قدرتها

تقول أماني  إنها نفدت من الحرب، لكنها لم تنجُ من تكاليف العلاج.

كانت تُسدد ثمن جلساتها وأدويتها من راتب زوجها المتقاعد فقط، راتب بالكاد يغطي احتياجات الأسرة الأساسية.

وتروي:

«كنت اصل  لنهاية الشهر وابحت عن من استلف منه… لأني أعطيت كل المال في العلاج، وهو غالي، ولا يوجد دواء مجاني. يجب ان تشتريه من الصيدليات الخاصة».

اضطرت في فترة ما إلى إيقاف العلاج. لم تعد قادرة على الدفع.

لكن المرض، كما تقول، لا يرحم من يتوقف عنه. فعادت أعراضها أقوى مما كانت، لتجد نفسها مجبرة على شراء الدواء والجلسات من جديد مهما كلّف الأمر.

رمضان الماضي… اللحظة التي انهارت فيها من جديد

تروي أماني أن الأشهر الماضية كانت الأصعب، وخاصة مع حلول شهر رمضان الفائت، حين ارتفع سعر الدواء بشكل كبير.

تصف الوضع قائلة:

«كان الدواء غالي بشكل لا يوصف والجلسات أغلى. وقفت العلاج أربع او خمس اشهر . لم استطيع ان اكمل ولكن حالتي رجعت لأسوأ من الأول».

ومثل كل مرة، وجدت أماني نفسها بين خيارين:

إما أن تتدهور حالتها، أو أن تعود إلى العلاج رغم العبء المالي.

فعادت… لأن المرض لا ينتظر.

المستشفى العام… باب مغلق

فكرت أماني في حل بديل: ربما المستشفيات العامة تستطيع مساعدتها.

ذهبت إلى مستشفى الرازي بحثاً عن علاج مجاني أو على الأقل منخفض التكلفة، لكنها اصطدمت بحقيقة صادمة:

«قد قالو لى انم لا يتعاملون  مع حالات القلق والاكتئاب البسيط  شعرت انه لا يوجد  مكان استطيع ان اذهب له… لا عام ولا خاص».

وحيدة بين ألمها وجيبها الفارغ، لم تجد خياراً إلا العودة للعيادات الخاصة.

بين النصائح الخاطئة والتمييز الاجتماعي… الطريق يزداد تعقيداً

تقول إن حتى أقرب الناس شككوا في طريق علاجها:

«قالولي لا تذهبي الى  دكتور نفسي… بل اتجهي لشيخ يرقيك. جربت فترة، لكن لم اجد اي استفاده ولم اشعر . بأي تحسن».

توقفت عن اللجوء للمشايخ وعادت لتكمل طريقها مع الطب النفسي.

لكن الطريق كان مكلفاً وطويلاً ووحيداً، ومع ذلك ما زالت تسير فيه حتى اليوم،  لأنها ببساطة لا تملك خياراً آخر.

حكاية امرأة… تمثّل واقع آلاف الليبيين

قصة أماني ليست حالة فردية. بل مرآة لما يعيشه آلاف المرضى النفسيين في ليبيا:

 • علاج مرتفع التكلفة،

 • أدوية غير متوفرة مجاناً،

 • مراكز عامة غير مهيأة،

 • ومرضى مضطرون للاختيار بين صحتهم… واستقرار بيوتهم.

وحين تسألها ماذا تتمنى؟

تسكت لثوانٍ طويلة ثم تقول

حقي في العلاج

بعد أن أنهت أماني روايتها المثقلة بالهلع والتكاليف والانتكاسات المتكررة، بدت الصورة ناقصة… إلى أن جلست ابنتها أمامنا لتكشف الجانب الآخر من المعاناة.

الجانب الذي لا يُرى في العيادات، ولا يسمعه الطبيب، ولا يشعر به أحد سوى الأسر التي تحاول أن تحمي مريضاً نفسياً في بيت بلا إمكانيات.

هنا تتحدث الابنة… شاهدة على رحلة أمها، وشاهدة أيضاً على عجز المنظومة بأكملها.

العلاج أغلى من قدرتنا… وأمي ترجع للمعاناة كلما توقف الدواء

هكذا بدات كلامها

  ما يمرون به

بين مرتب واحد ودواء لا يشمله التأمين… معاناة لا تنتهي

على الطرف الآخر من القصة تجلس ابنتها لتروي معاناة لا يعرفها سوى من عاشها معها يوماً بيوم.

تبدأ حديثها بصوت يختلط بين التعب والحرج

تحاول أن تشرح وضعاً أكبر من قدرتها، أكبر من بيت كامل يعيش على مرتب واحد. كلماتها بسيطة، لكنها تحمل ثقل سنوات من القلق، ومحاولات البقاء، والانهيار المتكرر أمام تكاليف علاج لا يرحم.

«معتمدين  على مرتب واحد مرتب الوالد   والوالدة  لا تعمل … ذهبنا  للتأمين الصحي.

التأمين الصحي يغطي بعض الأدوية مثل  السكر، الضغط وبعض الادويه الاخري البسيطه  لكن الأدوية النفسية مع الاسف لا يغطيها نهائياً.»

تصف الابنة رحلتهم مع التأمين الصحي كطريق مسدود.

كانوا يبحثون عن بصيص أمل، عن تغطية او تخفف ولو جزءاً من العبء، لكنهم فوجئوا بأن المرض النفسي غير مرئي بالنسبة للمنظومة الصحية.

«كل مره يقولو ن الشهر القادم   الشهر القادم من  الممكن ان يغطي التأمين الأدوية الأمراض النفسية والعقلية وهذا  كله كلام فقط ولا يوجد شيء.»

وفي كل مرة ينفد ما لديها من أدوية وتعود الأسرة لشرائها من جديد، كانت الصدمة تتكرر… فإجمالي تكلفة أدويتها يرتفع في كل مرة، مرة بعد أخرى، حتى بات مجموع ما تحتاجه يلامس السبعمئة دينار وأحياناً يتجاوز هذا الرقم بقليل وهو مبلغ يفوق قدرة أسرة تعتمد على مرتب واحد فقط، فيما يتطلّب علاجها النفسي استمرارية لا يمكن التوقف عنها

تقول الابنة بوضوح 

«حق دواء يقارب 700 دينار بلغ كثير بنسبه لنا … ونحن معتمدين فقط  على مرتب واحد ماذا سوف  يغطي ؟ لا يغطي شيء.»

وتتابع حديثها، لتكشف جانباً أصعب في الرحلة محاولة وقف الدواء بسبب التكلفة، وما حدث بعدها من انتكاس مدمر.

«وحتى عندما عدنا للدكتور وقلنا له ان ينقص الجرعة… بدأ ينقص ينقص حتي شبه اوقف بعض الأدوية، وهاد كله بسبب الغلاّ.

نحن قلنا له ان ينقص ولا يوقف بعضها  بسبب الأسعار. لكن عندما انقص الجرعة وعاد  ليوقف  بعض الأدوية… عادت  الحالة كما هي. عادت لنفس الأمراض، نفس الأوهام… حاولت حتى تشنق نفسها . بدت تصرخ بشكل هستيري ، وتفقد في أعصابها كثيرا وتعبت نفسياً اكثر من قبل .

كانت الأسرة عاجزة بين نارين نار التكلفة، ونار انتكاس الأم.

وفي كل مرة يتوقف فيها العلاج، تتراجع حالتها، ويتراجع معها استقرار البيت كله.

تضيف الابنة بصوت يختلط بين التعب والشفقة:

((عارفين  الأمراض النفسية كيف… يعني موضوع مرهق جداً من ناحية المالية و من ناحية الحياة بشكل عام ))

لكن رغم كل شيء، لم يجدوا خياراً آخر. فكل محاولة للتوفير كانت تنتهي بعودة الحالة إلى نقطة الصفر، بل أسوأ.

«فعدنا عدنا  للدكتور… و الأدوية وهادت  لنفس المعاناة .»

كانت كلمات الابنة واضحة وصادقة، تنقل صورة لأسرة تكافح دون سند، ودون نظام صحي يراعي أن الأمراض النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة.

ومع كل جملة كانت الأزمة تبدو أعمق أسرة تعتمد على راتب واحد، أم تحتاج علاجاً دائماً، تأمين صحي لا يغطي أدويتها، وأدوية وجلسات بأسعار لا ترحم.

هذه شهادة ابنة أماني المريضة، لكنها في الحقيقة شهادة مئات الأسر التي تعيش القصة نفسها كل يوم.

بين وجع ابنه على امها وبين تكاليف ارهقتهم

 ما قالته الابنة لم يكن مجرد تفاصيل أسرة تكافح، بل كان مدخلاً لفهم مشكلة أعمق:

لماذا تعجز عائلات كاملة عن الاستمرار في العلاج النفسي؟

ولماذا يصبح الدواء عبئاً يفوق قدرة المواطنين؟

وللإجابة على ذلك، كان لا بد من الذهاب إلى نقطة أخرى في منظومة العلاج الصيدليات.

هناك، يتحدث طبيب يملك صيدلية خاصة، كاشفاً الجانب المخفي من أزمة الدواء، والحقائق التي لا تصل عادةً إلى المرضى.

دواء مفقود… وخطر يقترب سريعاً

في حديثٍ صريح، يؤكد طبيب يملك صيدلية خاصة طلب عدم ذكر اسمه أن ملف الأدوية النفسية في ليبيا أصبح من أعقد الملفات الصحية وأكثرها حساسية. ويقول في بداية حديثه

«الأدوية النفسية مشكلة كبيرة… لأنها أدوية خطيرة، والتوقف عنها يؤثر سلباً على المريض في وقت قصير جداً.»

ويشير إلى أن خطورة الأمر لا تكمن فقط في طبيعة الدواء، بل في غيابه المتكرر من الأسواق.

غياب مستمر… وتأخر مزمن في الاستيراد

ويشرح الطبيب أن أزمة النقص ليست حدثاً طارئاً بل أصبحت واقعاً دائمًا

«الأدوية النفسية ليست متوفرة دائماً، لا في القطاع العام ولا الخاص، لأن أغلبها يعتمد على الاستيراد… ودائماً ما تتأخر الشحنات.»

هذا التأخر بحسب ما أوضح خلق سلسلة من الانقطاعات، جعلت رحلة المريض بين الصيدليات بحثاً مرهقاً عن دواء لا يصل في الوقت المناسب.

تكلفة باهظة… وفاتورة تتضاعف شهرياً

وفي سياق متصل، يؤكد الطبيب أن الأسعار تمثل عبئاً لا يطيقه كثير من المرضى

«الأدوية النفسية عالية التكلفة جداً… المريض المستقر عادة يتناول دواءين، لا تقل فاتورتهما عن 200 دينار شهرياً. أما من يحتاج خمسة أو ستة أدوية، فقد تصل تكلفته إلى 700 أو حتى 800 دينار شهرياً.»

ويضيف أن الأسعار لا تستقر أبداً، بل تتغير باستمرار لأنها تعتمد كلياً على السوق الخارجي.

وصفة غير مختومة… ودواء غير متاح

ويكشف الطبيب جانباً آخر من المعاناة لا ينتبه إليه الكثيرون، قائلاً

«الصيدليات الخاصة لا تصرف الأدوية النفسية إلا بوصفة مختومة. والمريض أحياناً لا يستطيع الوصول إلى طبيبه أو المركز الصحي ليختم الوصفة، فيأتي بوصفة قديمة… وهنا لا نستطيع صرف العلاج له.»

بهذا، يصبح المريض محاصراً بين غياب الدواء من جهة وتعقيدات الحصول عليه من جهة أخرى.

انقطاع العلاج… والنتائج قد تصل إلى الجرائم

ومن أكثر النقاط التي أكدها الطبيب خطورةً، تلك المتعلقة بالعواقب المترتبة على نقص الدواء أو ارتفاع سعره

«للأسف… هناك مرضى يُجبرون على إيقاف العلاج، أو تقليل الجرعات بسبب الظروف المادية. وهذا له مضاعفات خطيرة جداً… مضاعفات لا يمكن حصرها في كلمات.»

ويتابع بنبرة أكثر حدة

«بعض المرضى تصل بهم الأمور إلى مشاكل عائلية قد تنتهي بالطلاق… وآخرون قد يرتكبون جرائم بسبب الانتكاسة التي يسببها التوقف عن العلاج.»

أزمة دواء… أم أزمة نظام؟

وبحسب ما قاله الطبيب، فإن المشكلة لا تكمن فقط في ندرة الدواء أو ارتفاع سعره، بل في غياب منظومة واضحة تضمن توفره بشكل مستمر ومنظم.

فالقطاع العام كما يؤكد يوفر دواءً أو اثنين فقط من قائمة طويلة، ما يضطر المرضى إلى اللجوء للقطاع الخاص الذي يعتمد بدوره على الاستيراد المكلف وغير المنتظم.

وهكذا، تكشف شهادة الطبيب عن مستوى أعمق من الفوضى في ملف الصحة النفسية، حيث يتداخل النقص، والغلاء، وغياب التنظيم، ليترك المريض النفسي في مواجهة مصيره وحده.

وبينما يكشف الصيدلي جانباً من مأساة “الدواء المفقود” وارتفاع تكلفته، تظهر شهادة أخرى تضع الأمور في إطار أوسع الإطار الطبي الرسمي.

فما يحدث للمرضى في الصيدليات يراه الطبيب المختص بشكل يومي في العيادات.

وهنا يأتي صوت الدكتور سامر محمد سعيد ليؤكد أن ما يحدث ليس حالات فردية… بل أزمة وطنية تمتد من غياب الدولة إلى معاناة المريض.

أكد الدكتور سامر محمد سعيد، أخصائي الدعم النفسي والاجتماعي ومدير مركز سانيتاريو الطبي للصحة النفسية والجسدية، والمسؤول عن ملف الصحة النفسية للمرأة بوزارة شؤون المرأة، أن العلاج النفسي يجب أن يكون حقاً مكفولاً للمواطنين، وليس خدمة تُقدَّم فقط لمن يستطيع دفع ثمنها. وشدد على أن الوضع الحالي لا يضمن تكافؤ الفرص في الحصول على العلاج، بسبب ارتفاع التكاليف وضعف التغطية الحكومية.

وأوضح الدكتور سامر أن الصحة النفسية ليست رفاهية ولا ترفاً اجتماعياً، بل هي ضرورة أساسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية، مؤكداً أن أي شخص من يعاني أمراضاً مزمنة يمكنه الوصول إلى توازن نفسي عندما يحدد الأسباب الحقيقية للمشكلة. وقال:

«نعالج الجذور، وليس الأعراض فقط… وعندما تعالج الجذور، تختفي الكثير من الأعراض الجسدية المرافقة».

ارتفاع الاضطرابات النفسية… وارتفاع أكبر في التكاليف

وأشار الدكتور سامر إلى أن ارتفاع الاضطرابات النفسية في ليبيا بدأ بشكل واضح بعد عام 2011، حيث تضاعفت حالات:

 • القلق،

 • الاكتئاب،

 • اضطراب ما بعد الصدمة،

 • ونوبات الهلع.

وأكد أن هذه الاضطرابات ارتبطت مباشرة بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والحربية التي مر بها المجتمع، إلا أن الاستجابة الصحية لم تواكب هذا الارتفاع الكبير.

وقال:

«المرضى يصلون إلينا في مراحل متقدمة لأنهم لم يستطيعوا تحمل تكاليف العلاج أو الاستمرار فيه».

وأضاف أن انقطاع العلاج بسبب التكلفة لا يؤدي فقط إلى توقف التحسّن، بل يسبب انتكاسات أقسى، وظهور أعراض جديدة، وتحول حالات بسيطة إلى اضطرابات مزمنة.

العلاج النفسي حق… لكن المواطنين عاجزون عن الوصول إليه

أوضح الدكتور سامر أن أحد أكبر التحديات هو غياب المراكز الحكومية المتخصصة في كل البلديات، رغم أن العلاج النفسي يُفترض أن يكون متاحاً للجميع. وقال:

«العلاج النفسي حق، لكنه غير متاح فعلياً. المواطن بين حاجته للعلاج وبين عدم قدرته على دفع تكاليفه».

وأشار إلى أن الجلسات النفسية سواء فردية أو جماعية إلى جانب الأدوية، تحتاج التزاماً مادياً لا يستطيع كثيرون تحمّله، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة.

الدولة مطالَبة بتوفير العلاج النفسي بشكل شامل ومجاني

وبيّن الدكتور سامر أن الدولة تمتلك القدرة على توفير خدمات نفسية حكومية فعّالة، لكنها لم تُعطِ الصحة النفسية الأولوية اللازمة، رغم وجود مبادرات محدودة. وأكد أن توفير العلاج النفسي ليس خياراً ثانوياً، بل ضرورة صحية واجتماعية يجب أن تتبناها الدولة بالكامل.

وأشار إلى أن مرضى الصرع والشيزوفرينيا والاضطرابات المزمنة يحتاجون أدوية طويلة المدى، لكن هذه الأدوية غير متوفرة بشكل مستمر، وهي أزمة تهدد استقرار المرضى وأسرهم.

غياب التغطية… وارتفاع التكلفة… والنتيجة انتكاسات متكررة

أكد الدكتور سامر أن المنظومة الصحية الحالية تعاني من:

 • نقص في الأدوية النفسية،

 • غياب المتابعة الدورية،

 • ارتفاع تكلفة الجلسات،

 • ندرة الكوادر المتخصصة،

 • وعدم وجود خطة وطنية حقيقية للصحة النفسية.

وأعاد التأكيد

«العلاج النفسي لا يقوم على الدواء وحده، بل يحتاج جلسات وتأهيل ودعم أسري… وكل هذا غير متاح لغالبية المواطنين بسبب التكلفة».

الصحة النفسية أساس المجتمع والدولة مسؤولة عن حمايتها

واختتم الدكتور سامر تصريحاته بالتأكيد على أن علاج المواطنين نفسياً ليس خدمة إضافية، بل أساس لاستقرار المجتمع بعد سنوات الحرب والضغوط الاقتصادية.

وقال

«عندما تكون الصحة النفسية بخير… تكون الأسرة بخير والمجتمع كله بخير».

ودعا إلى ضرورة تحويل ملف الصحة النفسية إلى أولوية وطنية، وتوفير خدمات علاجية مجانية ودوام توفير الأدوية، وإنشاء مراكز في كل البلديات لضمان وصول العلاج لكل مواطن دون عوائق مالية.

ومع اتساع الصورة التي رسمها الدكتور سامر حول عجز المرضى عن الوصول للعلاج، كان لا بد من العودة إلى لبّ الأزمة نفسها الدواء.

فإذا كان العلاج النفسي حقاً… فأين يذهب المرضى حين لا يجدون الدواء؟

ولماذا تختفي الأدوية أصلاً؟

هذه الأسئلة فتحت الباب لشهادة صيدلي آخر ياسين سعيد زريبة الذي قدّم واحدة من أهم الحقائق التي توصّلنا اليها معظم الأدوية لا تدخل عبر قنوات شرعية

أدوية نفسية خارج القانون… كشف أول خيوط الأزمة

وأثناء  البحت عن الحقائق وتتبّع أسباب ارتفاع تكلفة العلاج النفسي وصعوبة الوصول إليه، اتّضح أن المشكلة لا تتعلق فقط بالسعر، بل بعدم توفر الدواء أساساً.

وفي هذا السياق، يكشف الصيدلي  ياسين سعيد زريبة

عن سلسلة من التعقيدات التي تحاصر توفير الأدوية النفسية في الصيدليات الخاصة، قائلاً

توقّفنا عن توفير كثير من هذه الأدوية في الأساس بسبب الخوف من القانون.

فالأدوية التي تصلنا تأتي في الغالب كـ كونترا… تهريب، بمصادر مجهولة، وإذا تعاملنا معها كاننا نتعامل مع مخدرات.

فالقانون لا يرحم، والدواء المهرّب لا يحمي أحداً.

وصفات تبدو قانونية… لكنها بيد من يتعاطون المخدرات

وفي سياق حديثه، يشير الصيدلي ياسين سعيد زريبة إلى عقبة أخرى تزيد من تعقيد المشهد، قائلاً

وهناك مشكلة ثانية… وهي المدمِنون أو ما نسمّيهم drug abuse. بعضهم يأتي بوصفات تبدو كاملة، مختومة، مستوفية لكل الشروط، وكأن كل شيء قانوني، بينما هي وصفات متفق عليها مسبقاً بين المتعاطين.

تخيّلي… يأتي شخص بوصفته الرسمية، لكن الإحساس وغالباً الإحساس الصحيح إنه يتعاطى مخدرات…

فنضطر ألا نصرف له الدواء وهذي مشكلة كبيرة.

هذا الجانب يكشف جزءاً مظلماً آخر:

غياب الرقابة الرسمية يفتح الباب أمام إساءة استخدام الأدوية النفسية، مما يزيد خوف الصيدليات من صرفها للمرضى الحقيقيين.

فوضى أدوية الجدول غياب الدولة يفتح الباب للتهريب

ويربط الصيدلي ياسين سعيد زريبة ذلك بغياب منظومة واضحة لتنظيم الأدوية ذات الحساسية العالية، قائلاً

المشكلة الثالثة أن ليبيا تفتقر إلى نظام واضح وحقيقي لتنظيم أدوية الجدول.

هذه الأدوية يفترض أن تُراقَب بدرجات مختلفة:

جدول أول، ثانٍ، ثالث، ورابع… وكلما ارتفع رقم الجدول اشتدّت الرقابة.

ويضيف موضحاً ما يجب أن يكون عليه الوضع الطبيعي:

في العالم الطبيعي، أدوية الجدول الأول تكون حصراً عند وزارة الصحة أو شركة الدولة، ولا تُصرف إلا للمستشفيات والمصحات.

ممنوع تماماً وجودها في صيدليات المجتمع.

وجدول اثنين مسموح، لكن تحت رقابة مشددة، وثلاثة وأربعة كذلك بشروط صارمة، منها أن يكون تاريخ الوصفة في نفس يوم صرفها.

لكن ما توصّل إليه التحقيق، وما يؤكده الصيدلي، هو التالي:

عدم وجود هذه الرقابة في ليبيا خلق فراغاً استغلته شبكات التهريب، فأصبحت الأدوية النفسية تدخل دون نظام، وتُباع دون ضوابط، أو تختفي كلياً.

حلّ موجود… لكن مجهول تماماً

ويضيف الصيدلي جزءاً آخر من المفاجأة التي كشفها التحقيق:

لكن في ليبيا… كل هذا غير موجود. أغلب الأدوية تصل بطرق غير رسمية، وتدخل البلاد بلا تنظيم.

صحيح أنّ هناك مكاناً اسمه شركة الإنماء في شارع الزاوية تابع للدولة ويوفّر الأدوية المخدّرة بطريقة قانونية، لكن لا أحد يعرف عنه لأنه لاتوجد دعاية، وأغلبهم  هم تجار

وهنا تتضح المفارقة:

حلّ قانوني موجود… لكن غياب الإعلان عنه جعل “التهريب” هو البديل الأقوى.

الخوف… آخر الأسباب وأقواها

ويختتم الصيدلي ياسين سعيد زريبة حديثه بتسليط الضوء على عامل آخر لا يقل خطراً

والأهم من كل ذلك، أن الصيدليات تخشى المشاكل… يخافون من قدوم المدمّنين، أو تهديدات ، أو أي إشكالية ممكن ان تحدث . فالأمر لا يقتصر على الدواء، بل على الأمن والمسؤولية… وهذي أهم الإشكاليات. هذا هو الواقع بكل أمانة.

هذا الخوف يكمّل الصورة التي كشفنا عنها :

الأدوية النفسية أصبحت ملفاً أمنياً قبل أن تكون علاجاً طبياً، ما يزيد معاناة المرضى ويجعل الحصول على الدواء رحلة محفوفة بالخطر بدل أن تكون حقاً صحياً مكفولاً.

غياب الدولة… ومرضى يعانون من اجل حق الوصول إلى العلاج

ما كشفه الصيدلي لم يكن مجرّد رواية من داخل كواليس المهنة، بل كان دليلاً حياً يضيف طبقة جديدة من التعقيد

فالأزمة لم تعد تقتصر على ارتفاع الأسعار أو عجز المرضى عن تحمّل تكلفة العلاج، بل اتّضح أن العقبة الأكبر تكمن في غياب مسار شرعي ومنظّم لدخول الأدوية النفسية إلى البلاد.

وبناءً على حديث الصيدلي، أصبح واضحاً أن:

 • جزءاً كبيراً من الأدوية يدخل كتهريب، ما يجعل الصيدليات تخشى التعامل معها.

 • المدمنون وسوء استخدام الأدوية يدفعان الصيدليات إلى الامتناع عن صرفها حتى لمن يحتاجها فعلاً.

 • نظام أدوية الجدول شبه معطّل، ولا توجد رقابة رسمية كما هو معمول به في الدول الأخرى.

 • المخزون الشرعي الموجود عبر الدولة غير معروف، والصيادلة أنفسهم لا يتم إعلامهم به.

 • الخوف الأمني والقانوني أصبح حاجزاً آخر أمام المريض النفسي.

هذه الشهادة تكشف حقيقة صادمة:

أن رحلة المريض النفسي في ليبيا لا تتعثر فقط بسبب المال بل لأنها تبدأ من سوق مُعطَّل، وتستمر في نظام بلا رقابة، وتنتهي في صيدليات تخشى المسؤولية أكثر مما تخشى فقدان زبائنها.

وبهذا، تكتمل الصورة التي ترسمها الحالات التي قابلناها

العلاج النفسي في ليبيا ليس مجرد خدمة مُكلفة… بل خدمة مُحاصَرة.

محاصرة بالقانون… بالتهريب… بالخوف… وبغياب الدولة عن واحد من أهم حقول الصحة العامة في البلاد.

وهكذا، يصبح المريض النفسي في ليبيا محاصراً من كل اتجاه، لا يملك إلا الصمود… أو الانهيار.

استثناء العلاج النفسي من التأمين الصحي 

وفقاً للملحق رقم (3) المرفق باللائحة التنفيذية لقانون رقم 20 لسنة 2010 بشأن نظام التأمين الصحي، يُصنَّف العلاج النفسي والعقلي ضمن الخدمات الطبية المستثناة بالكامل من التغطية التأمينية.

يشمل هذا الاستثناء:

 • فحص وتشخيص الاضطرابات النفسية والعقلية.

 • علاج الأمراض النفسية بمختلف أنواعها.

 • الأدوية النفسية الموصوفة لعلاج هذه الاضطرابات.

وبهذا التصنيف، يصبح العلاج النفسي غير مشمول لا في التأمين الصحي الأساسي ولا التأمين التكميلي، بل يُعتبر من الالتزامات التي “تتولى الدولة تمويلها مباشرة”، دون تحميل منظومة التأمين مسؤولية تغطيته.

هذا الاستثناء يعني أن المواطنين الذين يحتاجون إلى علاج نفسي  سواء جلسات، متابعة، أو أدوية  لا يحصلون على أي تغطية تأمينية، مما يترك المرضى أمام خيارين:

  1. الاعتماد على مؤسسات حكومية تعاني ضغطاً ونقصاً في الإمكانيات،

أو 2) تحمل التكلفة بالكامل في القطاع الخاص

حين يتحوّل العلاج النفسي إلى عبء لا يستطيع المريض حمله

ما تكشفه شهادات المرضى وذويهم، وما صرّح به الأطباء والصيادلة، لا يترك مجالاً للشك

العلاج النفسي في ليبيا لم يعد حقاً مكفولاً، بل عبئاً ثقيلاً ينوء تحته آلاف المرضى.

فمن مريضةٍ تتنقل بين انتكاسة وأخرى بسبب جرعات تُخفَّض قسراً لارتفاع ثمنها،

إلى أسرةٍ تُحاصرها الأدوية التي تتجاوز كلفتها مرتب شهر كامل،

إلى صيادلةٍ يعترفون بأن جزءاً كبيراً من الأدوية لا يدخل عبر قنوات شرعية،

وإلى أطباءٍ يؤكدون أن الانقطاع عن العلاج يقود إلى انهيارات قد تصل إلى العنف والانتحار…

جميعهم، دون أن يتفقوا، يضعون إصبعهم على الجرح نفسه:

المرض النفسي ليس المشكلة… المشكلة هي الوصول إلى العلاج.

فالدواء غير متوفر، وإن توفر فهو مرتفع الثمن.

والقطاع العام عاجز عن توفير البديل.

والقطاع الخاص مكبَّل بالخوف من المساءلة القانونية ومن تهديدات المتعاطين.

والدولة، حتى الآن، خارج المشهد.

وهكذا تتحول رحلة العلاج إلى معادلة قاسية:

من يستطيع أن يدفع… يَشفى.

ومن يعجز… يدفع الثمن من صحته وحياته.

هذه ليست مجرد قصه فردية

إنها مؤشرات واضحة على خلل بنيوي يجعل المرضى النفسيين الشريحة الأكثر هشاشة في منظومة صحية بلا حماية.

وبين دواء لا يصل، وقانون لا يُطبَّق، ومريضٍ لا يُسمَع،

يبقى السؤال الذي يفرض نفسه في النهاية

إن لم يكن العلاج النفسي حقاً مضموناً لكل مواطن… فمتى نعتبر الصحة النفسية جزءاً من صحة الإنسان؟

تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR