في بلد تنتشر فيه الأزمات من كل جانب، لا يبدو أن المرض وحده هو ما يهدد حياة الليبيين، بل أصبحت وزارة الصحة في حد ذاتها ومن ورائها شبكات التوريد والفساد، مصدرًا لأكبر الأخطار التي تحيط بالمرضى.
في مشهد تراجيدي لا يخلو من السخرية السوداء، تتحوّل الوصفة الطبية إلى تذكرة موت، ويتحوّل الوزير إلى كبش فداء يقدَّم للشعب الغاضب كقربان مؤقت، ريثما تهدأ العاصفة.كالعادة في ظل تفاقم الفضائح، وانهيار الحكومة، وتآكل الشرعية، باتت السلطات تستخدم أسلوب التضحية كوسيلة لإقفال الملفات الساخنة وامتصاص الغضب الشعبي، بينما يبقى الفساد المالي والإداري هو المرض العضال الذي لا يجد من يتجرأ على تشخيصه أو اجتثاثه.
أحدث حلقات هذا العبث ظهرت على شكل فضيحة مدويةتوريد أدوية لعلاج الأورام، مجهولة المصدر، رديئة الجودة، بعضها قادم من الخارج دون علم رسمي، وبعضها الآخر مدعوم بشكل مبهم والنتيجة مرضى في مهب السموم
القصة تبدأ من مصراتة حين فاحت رائحة الأدوية الفاسدةفي سبتمبر 2024 أعلن المعهد القومي لعلاج الأورام في مصراتة رفضه شحنة أدوية تم استيرادها عبر جهاز الإمداد الطبي، واصفًا إياها بـالمجهولة والمشبوهةالشحنة تضمنت أدوية لعلاج السرطان دون شهادات تحليل أو اعتماد دوائي وعدد من المرضى الذين تلقوا هذه الأدوية عانوا من أعراض جانبية خطيرة، من بينها تفاقم حالتهم الصحية وحساسيات غير معتادة كانت هذه اللحظة بداية لانكشاف المستور.
توريد الأدوية تناقض صارخ ومصدر إضافي للريبةفي يونيو 2024، نفت وزارة الصحة مسؤوليتها عن أي شحنات دواء وشددت على ضرورة وجود إذن توريد مسبق لأي دواء مراقب دوليًا لكن تقارير أكدت توريد شحنات أدوية ، مما فتح الباب أمام تساؤلات حول الجهة التي تستورد خارج علم الدولة، وتستفيد من هذه الصفقات في الخفاء.في محاولة لاحتواء الأزمة، سارعت وزارة الصحة بحكومة الوحدة الوطنية إلى نفي مسؤوليتها عن الشحنة ومن جانب أخر مؤكدة أن الأعراض الجانبية المسجلة موجودة في جميع دول العالم وأن عمليات التوريد جرت وفق المعايير العالمية لكنها لم تنكر استلام الشحنة، ولم تُقدّم مستندات تثبت فحصها.في المقابل، تمسّك المعهد القومي بموقفه، مؤكدًا أن الأدوية غير معروفة لدى طواقمه، ولم تُسجل لديهم من قبل، وهو ما زاد الشكوك حول طريقة دخولها للبلاد دون إذن توريد رسمي، كما أكدته الوزارة نفسها في بيان لاحق.عقود في الظل وأدوية قاتلة أشارت تقارير إعلامية موثوقة إلى تورط مسؤول في اللجنة الفنية للعطاء العام وتسجيل الشركات في وزارة الصحة بحكومة الوحدة الوطنية، في التعاقد مع شركات أجنبية غير معروفة لتوريد أدوية الأورام إلى ليبيا بحسب تقرير نشرته أخبار ليبيا 24 في 15 سبتمبر 2024، فإن هذه الأدوية تم استيرادها من دول مثل الهند، تركيا، مالطا، وقبرص، ولم تكن مطابقة للمواصفات الدولية، مما أدى إلى تدهور صحة العديد من المرضى التحقيقات تبدأ… لكن هل تصل إلى الحقيقة؟
التضارب لم يقتصر على شحنة مصراتة فقط في عام 2024 وكما جرت العادة فقد أحالت الحكومة عددًا من المسؤولين كأكبش فداء ، إلى التحقيق 2025، بتهم تتعلق بفساد إداري وتوريد أدوية غير مطابقة للمواصفات ولكن إلى الآن، لم تُعلن نتائج التحقيقات السابقة بخصوص شحنة مصراتة بشكل مفصل وكان هناك تباينا في الآراء حول سلامة هذه الادوية مما يستدعي مزيدا من التحقيقات والتدقيق ، وهذا ما يعزز الشكوك بأن الملف سيتم دفنه مثل عشرات الملفات قبلهتاريخ أسود من الفضائح !!!قضية الأدوية الفاسدة ليست أولى الفضائح في وزارة الصحة ففي يناير 2022، تم إيقاف عدد من المسؤولين في الصحة بعد أن ثبت تورطهم في مخالفات مالية وإدارية جسيمة وقتها، كانت التهم تدور حول استغلال المنصب وتضارب المصالح والتعاقد مع جهات دون اتباع الإجراءات القانونية.
السرطان في ليبيا المرض الذي ينتشر بصمتوفق الهيئة الوطنية لمكافحة السرطان، سُجّل في النصف الأول من عام 2023 فقط 3,630 حالة إصابة جديدة بالسرطان، وهو رقم مرعب في بلد يعاني هشاشة القطاع الصحي وانعدام مراكز الكشف المبكر وتوضح الإحصاءات أن سرطان الثدي يشكل 28% من الحالات، يليه القولون بـ17%، والبروستاتا بـ7%، في مؤشر واضح على تدهور وضع الصحة العامة، خاصة في ظل غياب برامج وطنية للوقاية أو التوعية.المأساة الحقيقية تكمن في أن هذا الارتفاع يتزامن مع شبه انعدام في توفر العلاج الملائم ففي أغلب المناطق، لا تتوفر أجهزة العلاج الإشعاعي، بينما تنتظر آلاف الحالات العلاج الكيميائي الذي قد لا يصل أبدًا أو قد يصل مغشوشًا.
كم كلّفنا هذا الموت؟ تقارير ديوان المحاسبة لعام 2022 تكشف أن نحو 600 مليون دينار ليبي صُرفت على قطاع الأدوية، مع تسجيل تجاوزات في الشراء، بينها فروق أسعار تصل إلى 100% مقارنة بالأسعار العالمية وصفقات تكليف مباشر تتخطى قيمتها المليار دينار بمعنى آخر، تم شراء دواء مغشوش بسعر دواء أصلي، ومرضى لا حول لهم ولا قوةالمرضى يدفعون الثمن دواء مغشوش أو موت محقق بين الفساد والعجزمع غياب الرقابة، وارتفاع أسعار الأدوية، وندرة الخيارات المتاحة، يجد مرضى الأورام أنفسهم بين مطرقة الفساد وسندان الموت بعضهم يضطر لتناول أدوية غير مضمونة، والبعض الآخر ينتظر دوره في السفر للخارج أو تلقي العلاج بتكلفة لا قدره له بها.
الضحية الوحيدة في هذه الدوامة هو المريض لا يحصل على دوائه، وإن حصل، فقد يكون قاتلًا لا يجد سريرًا في مستشفى عام، ولا يملك ثمن العلاج في عيادة خاصة وإن صرخ، فلا صوت له في زحمة التصريحات الصحفية والمزايدات السياسية.من يُحاسب من؟
أزمة أدوية الأورام في ليبيا ليست مجرد خطأ إداري أو تقصير تقني إنها جريمة منظمة ضحيتها شعب بأكمله جريمة شارك فيها مسؤولون وموردون، وصمت عنها إعلام رسمي وحكومة لا تجيد سوى الإنكار أو التجاهل.إنها شهادة دامغة على أن الفساد لا يقتل فقط من خلال السرقة، بل أيضاً من خلال الإهمال المقصود والعبث بأرواح الأبرياء.على الحكومة أن تدرك أن صحة مواطنيها ليست ساحة للتجارب، ولا سِلعة تدر الأرباح إن ما يحتاجه مرضى السرطان في ليبيا ليس فقط علاجا آمنا وفعّالا، بل منظومة صحية نظيفة، مسؤولة، شفافة، تضع الإنسان قبل العطاء، والدواء قبل الولاء.