في أغسطس الماضي، خرج علينا الوزير صاحب الحقائب الثلاث معلنًا بفخر أنه أعطى الإذن بطباعة الكتاب المدرسي في مطابع محلية، في خطوة صوّرها إعلام الحكومة على أنها “فتح مبين” ودليل على دعم القطاع الخاص الوطني.
لم تمضِ أيام حتى تابع الوزير بنفسه هذا المشهد المسرحي بتصريحات تؤكد أن الكتب ستكون جاهزة مع بداية العام الدراسي منتصف سبتمبر، ضمن ما أسماه “خطة عودة الحياة المدرسية”.

لكننا اليوم، وبعد شهر ونصف من انطلاق العام الدراسي، وقبيل الامتحانات النصفية، نستيقظ على نداءات استغاثة من المدارس والطلبة وأولياء الأمور:
لا أثر للكتاب المدرسي!
ولا حياة لمن تنادي!

انكشفت المسرحية، وسقط القناع عن “عودة الحياة”، ليتضح أن الكتاب المدرسي أصبح حلقة جديدة في مسلسل الأزمات التي يعيشها المواطن الليبي في ظل حكومة الشعارات والديكور السياسي برعاية عبد الحميد الدبيبة.

في خضم الفوضى، ضحّى الوزير بمدير مصلحة المناهج وأوقفه عن العمل، ثم خرج لينسف كل وعوده السابقة معلنًا أن الكتب المدرسية جاهزة ومطبوعة بالكامل وموجودة في إيطاليا!
لكنها لم تُشحن بسبب وجود التزامات مالية علي الدولة الليبية، وأن الشركات الإيطالية ترفض الافراج علي شحنات الكتاب المدرسي إلا بعد استلامها لمستحقاتها.
وهنا يقفز السؤال المنطقي:
كيف تحولت طباعة الكتاب من مطابع محلية إلى شركات أجنبية في إيطاليا؟
ومتى حدث هذا التحول السحري؟
وأين اختفت مستحقات الشركات الإيطالية ؟

وبعد فوات الأوان، وفي يوم عطلة، خرج ديوان المحاسبة بكتاب رسمي يفرض فيه “الرقابة المصاحبة” على معاملات طباعة الكتب، وكأننا أمام اعتراف متأخر بعد خراب مالطا.
ثم بدأت المفاجآت تتوالى عبر مواقع التواصل، ليكتشف الليبيون أن عقد الطباعة أُسند إلى شركة خاصة برأسمال لا يتجاوز 30 ألف دينار، وبقيمة 129 مليون دينار، عبر عطاء مباشر جهارًا نهارًا، وبموافقة من المصرف المركزي الذي منحها استثناءات خاصة!
لكن سرعان ما أصدر المصرف نفسه كتابًا جديدًا بإيقاف كل معاملات الشركة، لتضيع الحقيقة وسط تبادل التهم والتبريرات.

الحقيقة، رغم محاولات طمسها، تفرض نفسها:
نحن أمام عبث رسمي بمستقبل أبنائنا، وتلاعب فاضح بالعملية التعليمية، وسط مشهد حكومي مرتبك لا يعرف من أين يبدأ ولا إلى أين يسير.
أما رئيس الحكومة، فكالعادة، يغرد بعيدًا في عالمه الافتراضي، يتحدث عن “الرقمنة والحوكمة وعودة الحياة”، وكأن أزمة التعليم ليست من اختصاصه ولا تليق بجدول إنجازاته المزعومة.

لقد وصلنا إلى مرحلة من الانفصال التام بين الخطاب والواقع، حيث تُسكَت الأزمات بالوهم والدعاية، وتُترك أجيالنا تواجه الفوضى دون كتاب، دون نظام، ودون مسؤول يتحمل المسؤولية.

إنها فعلاً أتعس فترات الحكم في ليبيا…
حين يُختزل مستقبل أمة في كتاب ضائع بين الفساد والتبرير، ويُترك أبناؤنا يحترقون بنار الإهمال في زمن يتقافز فيه المسؤولون فوق كرة اللهب.