مقال جديد لعضو لجنة الحوار السياسي السابق الكاتب عبدالرزاق العرادي مستعرضا فيه التداخل والتباين بين المواقف السياسية والأحكام الشرعية.
ابتداءً، من حق أي إنسان أن يسجل موقفه السياسي في شأن من الشؤون، ومن حق غيره أن يعارضه أو يتفق معه، سواء أكان هذا الإنسان عالماً في الدين أو في السياسة، أو كان عامياً. غير أن الحكم الشرعي لا يؤخذ إلا من الثقات المعروفين بالدين، والأمانة، واتباع السنة، وسلامة الفكر، ولا يسع الآخذ متى توافر ذلك إلا أن يقول سمعنا وأطعنا. أما في المواقف السياسية، فالخصومة هي الأصل، وقد تصل إلى الكيد والبغي والنكث، ويسير المسلم فيها بشعار “لست بالخِب ولا الخِب يخدعني”.
مثال ذلك ما حدث قبل بضعة أيام حين اختلف الناس داخل المجلس الأعلى للدولة وخارجه حول انتخابات رئيسه. فقد تقدم لهذه الانتخابات ثلاث شخصيات: محمد تكالة، وعادل كرموس، وخالد المشري. لو كنت ممن يحق لهم الانتخاب، لانتخبت كرموس في الجولة الأولى، ولربما تركت الورقة بيضاء في الثانية. ولو كان علي التفضيل بينهما من باب سد الذرائع، لاخترت تكالة إن كنت داعماً للحكومة، وإن كنت ضدها فسأنتخب المشري. أما إذا كنت ممن يبيع إرادته بشيء من الدنيا قليل، فسأصوت لمن يدفع ولن أبتغي عن الذي يدفع أكثر بديلا.
هنا مواقف سياسية عدة، منها حرية الاختيار بناءً على ما يراه المصوت أصلح لدينه ووطنيته أو لحزبه أو لمؤسسته، استنادًا إلى المنفعة التي يحققها هذا الموقف السياسي الذي اتخذه. وفي المقابل، هناك من يصوت لتحقيق منفعة شخصية فاسدة. المواقف السياسية في الحالة الأولى هي حق مكفول للشخص، وهو مسؤول عنها أمام الله ثم أمام التاريخ. بينما في الحالة الأخيرة، يتوجب على الجميع أن يعلم الحكم الشرعي من أهل العلم، فهذا الفعل يُفسد المجتمع حكاماً ومحكومين ويُبطل الحقوق. ولذلك يجب التحذير منهم، وعلى العلماء أن يصدعوا بالحكم الشرعي في فسادهم ويحذروا منهم.
هذا التحذير كان ينبغي أن يكون الأعلى صوتاً، لا أن تحجبه المواقف والخصومة السياسية. غاب عن الفسدة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي، وأنه صلى الله عليه وسلم قال فيهم: “ما بال عاملٍ أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أُهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر”، فالذي يأكل الرشوة من هؤلاء الأعضاء إنما يحملها على عاتقه إثمًا عظيمًا يُسأل عنه يوم القيامة، {قُلْ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}.
مواقف سياسية أو أحكام شرعية؟!
حين ينشر شخص ما صورة لخالد المشري مكتوب تحتها “منذ اليوم أعتبر نفسي رئيساً شرعياً للمجلس الأعلى للدولة في ليبيا”، وبجانبها صورة ليحيى السنوار وتحتها مكتوب “السنوار رئيسا للحركة خلفا لهنية”، ثم يعقب هذا الشخص بالقول “لولا مخافة الله لقلت قولا ثقيلاً”، فإن هذا الموقف قد يُقبل من باب الخصومة السياسية. حتى وإن قال آخرون إن المقارنة لا تصح، أو أنها فجور في الخصومة، أو أن هذا الشخص مستفيد من فوز هذا أو ذاك، ما يهمنا هو أن هذا الشخص عبَّر عن رأيه وموقفه المعارض، وهذا حقه السياسي، ومن حق الآخرين أن يخالفوه أو يعارضوه، ولو بالفجور في الخصومة، فكل إناء بما فيه ينضحُ.
كذلك، عند استخدام لفظ الخيانة لوصف فريق له خيارات سياسية مخالفة، فإن ذلك يعد من باب الخصومة السياسية ولربما حتى الفجور فيها. وأيضاً، إذا اتُّهِم فريق سياسي بأنه ذهب إلى بلد والتقى مع أجهزة مخابراتها بينما الحقيقة غير ذلك، فإنني أرى أن القائل كان يجب عليه أن يتأكد بنفسه من حقيقة الأمر، حتى وإن كان على قطيعة مع هذا الفريق، كأن يرسل من يستفسر منهم قبل أن يوجه إليهم هذه التهمة من باب “فتبينوا”.
وينطبق الأمر ذاته على محطة الصخيرات، التي اختلف الناس بشأنها: هناك من شارك فيها، وهناك من رفضها بالكامل، وهناك من وضع شروطاً قُبِل بعضها في التفاوض وتعذر قبول بعضها الآخر. ومن بين هؤلاء من رتب كل نقيصة على مخرجاتها، بالرغم من أن التصدي للإرهاب والانقلاب جرى تحت مظلة هذه المخرجات. وينطبق الكلام أيضاً على لقاءات جنيف، التي شارك فيها البعض ورفضها البعض الآخر، ولكن دعم وأيد مخرجاتها. كل ذلك يُعبر عن مواقف سياسية واجتهادات تدور في دائرة الخطأ والصواب، وليس في دائرة الحق والباطل.
عندما يكون الأمر متعلقاً بموقف سياسي، فإنه من الخطير أن يُلبس بحكم شرعي، لأن ذلك يعرض من يقف في المقابل للخطر. على سبيل المثال، تعرض الحزب الديمقراطي لقدر كبير من الخصومة السياسية، منها ما كان صحياً ومنها ما كان سقيمًا، والأخطر منها تلك التي أُلبست بثوب الحكم الشرعي، فعلى سبيل المثال ثلاثة من قيادات الحزب تعرضوا لمحاولات اغتيال وخطف.
تركت العمل السياسي الحزبي منذ أبريل 2014 لأسباب شخصية تتعلق بما نالني من فجور الخصومة، ولذلك أعلم مرارة هذا النوع من الخصومة عن كثب. في الحقيقة، كان “حزب العدالة والبناء” حزباً سياسياً مارس السياسة باقتدار خلال تلك الفترة، ويُعتبر من الأحزاب القليلة التي وثقت مواقفها في كل شاردة وواردة من خلال بيانات وتصريحات صحفية. بعد الانشقاق الذي شهده الحزب، وُلد من رحمه “الحزب الديمقراطي”، الذي ظهر كحزب فاعل ومؤثر بقوة في المشهد السياسي، ونال نصيبه من سهام معارضيه.
الأسباب التي أدت إلى ذلك لا تعود فقط إلى الحزب الديمقراطي نفسه، بل أيضاً إلى فشل الآخرين في تأسيس حزب سياسي قادر على أن يكون فاعلاً ويسحب البساط من تحت أقدام هذا الحزب أو غيره ممن يعارض توجهه. في النهاية، يجب علينا أن ندرك الفرق بين الأحكام الشرعية والمواقف السياسية، وأن التحديات السياسية لا تُحل بالخصومة السقيمة أو الهجوم الشخصي، بل بتقديم بدائل سياسية أكثر قوة وفعالية.